لا شك أن الحكم على السلطات السورية الجديدة سيكون على أساس تصميمها على احترام الحقوق الأساسية للأفراد والأقليات (الدينية والمذهبية والسياسية)، ولكن أيضا على أساس قدرتها على ضمان تحقيق العدالة فيما يتعلق بالجرائم الجماعية التي ارتكبت في ظل نظام الأسد، والتي ظلت دون عقاب لفترة طويلة، دون اللجوء إلى روح القصاص والثأر، بل عن طريق عدالة انتقالية لا انتقامية.
ما نشهده اليوم هو زوال الأسدية، والأسدية هي عبارة عن قيام (سلطة) قسرية باحتلال الدولة ومؤسساتها وتسخيرها بشكل خاص للحفاظ على الحكم واستثماره الخاص لصالح الحاشية المحيطة بالرئيس أي الحاشية والطائفة الأسدية، ولذلك نحن كنا أمام ظاهرة (دولة ـ السلطة)، ولم نكن نعيش حالة سلطة الدولة. ودولة ـ السلطة هذه هي شكل من أشكال التدمير الكلي لفكرة الدولة. وتدمير المؤسسة يعني تدمير الحق، وتدمير فكرة المواطنة. والمؤشر الأول لبداية ظهور هذا الميل نحو تغليب دولة السلطة على سلطة الدولة بدأ قبل عام 1970 مع قانون الطوارئ الذي سن مع انقلاب الثامن من آذار 1963 واستمر بصور مختلفة طوال الفترة الأسدية التي استمرت 54 عاماً، وكذلك ظهور ما يسمى بـ (الموافقات الأمنية) التي ظهرت في بداية الحقبة الأسدية، أي ضرورة الحصول على موافقة أمنية في كل خطوة يخطوها السوري، طلب جواز السفر، أو دخول كلية حربية، أو الحصول على وظيفة أو حالات أخرى كثيرة بلغت نحو 500 حالة موافقة أو أكثر (1).
هي باختصار، دولة السلطة، التي سادت منذ ما سمي بالحركة التصحيحية عام 1970 وقد تظاهرت أو تجسدت منذ الأشهر الأولى بثلاث مظاهر لافتة لم يعتد عليها السوريين منذ استقلال جمهوريتهم عام 1946 وهي:
1ـ عبادة شخصية القائد والزعيم والمُلهم.. إلخ.. من الصفات الخارقة، التي تجسدت بالصور الضخمة الجدرانية واللافتات التي تشير إلى صفات القائد، والأغاني التي تصدح في وصف صفات القائد العظيم.. إلخ.
2ـ قانون الطوارئ، الذي عشنا معه في كامل الفترة الأسدية، سواء مع الأب (1970 ـ 2000)، أو مع الأبن (2000 ـ 2924) ولو بصيغ أخرى مثل صيغة مكافحة الإرهاب والإرهابيين، والمقصود في عرف النظام المعارضة والمعارضين، سياسية كانت أم مدنية (2).
ـ الموافقات الأمنية.
وحملة رد العدوان التي قادتها هيئة تحرير الشام حققت في مدة استثنائية ثلاثة أحداث خارقة:
1ـ إسقاط نظام الطاغية في 11 ـ 12 يوم، بعد 14 سنة من المجازر والكوارث والمآسي والتدمير التي ارتكبها هذا النظام.
2ـ السقوط بلا دماء تسفك (عدد ضحايا هذه الحملة الظافرة بلغ حوالي 700 ـ 800 ضحية من المقاتلين في الجهتين والمدنيين) بسبب الاختيار الاستراتيجي الدقيق للحظة إطلاق العمليات.
3ـ التعامل الإنساني من قبل مقاتلي الهيئة مع السوريين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية أو العرقية.
وبعد شهر من حملة رد العدوان الظافرة، والكثير من التصريحات المريحة والمطمئنة الصادرة عن السيد أحمد الشرع القائد العام للإدارة الجديدة في سورية، والقرارات الجريئة التي أصدرتها حكومة تسيير الأعمال برئاسة السيد محمد البشير، والتي أشاعت أجواء الارتياح بين السوريين، وانعكست بصورة إيجابية على الواقع المعاشي اليومي لهم، لا تزال حالة عدم اليقين هي السائدة في سوريا منذ سقوط النظام السابق في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. ويهدد الصراع المسلح القائم حالياً في شمال شرق سورية وحدة البلاد، حيث يعتزم حلفاء تركيا السوريين من الجيش الوطني دفع قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية، والتي شكلت عام 2014 الذراع العسكرية على الأرض في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من قبل الولايات المتحدة وباقي الحلفاء معها. وتبقى نوايا القيادة الجديدة غير واضحة تماماً بالنسبة للمرحلة الانتقالية القادمة بالرغم من الرسائل التطمينية من قبل الذين طردوا نظام الطاغية من دمشق ودعوتهم الأخيرة لانعقاد مؤتمر وطني للحوار، حيث إلى اليوم لم يجرِ أي اتصال مع قيادة الائتلاف الوطني، ولا هيئة التنسيق الوطنية، ولا التشكيلات السياسية الأخرى والاكتفاء بالحديث عن الطوائف وأهل الحل والعقد. والمخاوف تتزايد في بعض الأوساط الداخلية والخارجية بشكل خاص من رجال الفصائل المسلحة الذين جاءوا من الجهاد، بما في ذلك زعيم هيئة تحرير الشام، السيد أحمد الشرع (المعروف باسمه الحركي، أبو محمد الجولاني)، الذي بدّل في وقت قياسي ملابس القتال الخضراء القاتمة بالبدلة الرسمية وربطة العنق، حيث يعتبر البعض جهلاً أن الأمر لا يتعدى الرسائل التطمينية الموجهة نحو الخارج. لكن السؤال المطروح برأيي هو: هل يستطيع رجال أحمد الشرع القائد الجديد لسورية أن يبدلوا لباسهم الفصائلي، وكذلك صرامتهم الأيديولوجية الإسلامية المتشددة ليندمجوا في الجيش الوطني كحماة للجمهورية السورية الثانية؟ (3). برغم أن الاتصالات جارية، بما في ذلك مع الدول التي أدرجت هيئة تحرير الشام على قوائمها للمنظمات الإرهابية (نشير هنا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية رفعت الشرع من لائحة الإرهاب)، وهو ما يشكل دليلاً على البراغماتية المرحب بها من قبل السلطات القائمة الجديدة فيما يخص العلاقات الدولية، وكذلك من قبل السوريين الذين يؤيدون هذه البراغماتية في التعامل مع الخارج، ويستعجلون رؤية أوضاعهم المعاشية اليومية تتحسن، ما أعطى شرعية كبيرة للإدارة الجديدة بقيادة السيد أحمد الشرع ومخطط السياسات الخارجية الجديدة السيد أسعد حسين الشيباني.
لكن الحكم على السلطات السورية الجديدة لن يتم فقط على أساس تحسين الواقع المعاشي للسوريين ـ وهو مهم بالتأكيد ـ بل على تصميمها أولاً على احترام الحقوق الأساسية للأفراد والأقليات، وثانياً على قدرتها على ضمان تحقيق العدالة في الجرائم الجماعية التي ظلت دون عقاب لفترة طويلة. وعلينا أن نأمل أن تتحدث الأرشيفات المحفوظة، لتقول ما حدث للمختفين قسرياً في سجون الأسد ـ الأب، وكذلك الأسد ـ الابن، وتحدد المسؤوليات، بل وتسلط الضوء على كل مستويات هذه المسؤولية من الرئيس المخلوع السابق حتى أصغر مسؤول تولى القيام بأشنع الأعمال البربرية في تعذيب السجناء.
والأيام الأولى لسوريا الحرة هذه أكدت بالفعل ما رفض أولئك الذين توسلوا، بما في ذلك في أوروبا والعالم العربي، لصالح التطبيع مع نظام مكروه، أن يرونه، أي وحشية هذا النظام التي لا كلمات تصل للتعبير عن بربريتها. وبدأت السجون والمقابر الجماعية المكتشفة تحكي حكاياتها المشؤومة. العائلات التي لم تصلها أخبار عن أحبائها، والذين غالباً ما سُجنوا دون سبب لعدة عقود في بعض الأحيان، استعادت الأمل لفترة وجيزة بمجرد فرار الجلادين وأسيادهم قبل أن تظهر الحقيقة بشكل مؤلم؛ أدى إلى قمع الانتفاضة التي بدأت في مارس 2011، دون أدنى شك، إلى مقتل عشرات الآلاف من السوريين في سجون أو مسالخ النظام البائد.
إن المهمة هائلة عندما يتعلق الأمر بالإرث المظلم لنظام تم تحديده على أنه سلالة حاكمة لأكثر من نصف قرن. ومع ذلك، فمن الضروري القيام بهذه المهمة. ويجب أن يكون هذا البحث عن العدالة الانتقالية فرصة لتمييز أنفسنا بشكل جذري عن عصر الإرهاب من خلال منع حمامات الدم الجديدة التي حدثت في فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم بشار الأسد. في ظل هذا الوضع، يمكن للمجتمع السوري، الذي قسمته عائلة الأسد إلى مجموعات دينية ومجموعات عرقية ذات علاقات عدائية في كثير من الأحيان، أن يجد هذا المجتمع المنكوب في هذا المسعى نحو العدالة لضحايا هذا النظام عاملاً للوحدة على المدى القصير.
ومن المؤكد أن العديد من العصابة المحيطة بالرئيس المخلوع وقادة أذرع أجهزتها القمعية قد غادروا البلاد، بعد أن نهبوا للمرة الأخيرة بلداً كان مستعبداً منذ عقود لمآربهم الشخصية والمجرمة. ولكن هنا أيضا ينبغي أن يكون للعدالة كلمتها، ويجب ملاحقة هؤلاء الهاربين بلا هوادة، بدءاً بأولهم، وهو اللاجئ (الإنساني) القابع في روسيا.
إن الإجراءات القانونية التي بدأت في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا، ضد مسؤولي النظام السابق الذين وجدوا ملجأ هناك، والذين حوكم بعضهم وأُدينوا في ألمانيا، قد سمحت بأولى الخروق في جدار الإفلات من العقاب الذي فرضه النظام.
لقد حان الوقت للسوريين، بعد تحرير أنفسهم من النظام البغيض، أن يتحملوا مسؤولية الدفع نحو تحقيق العدالة، وأيضاً متابعة عمل التحرير الذي كان لـ (الجهاديون) شرف إتمامه ضمن مسار طويل ومعقد للثورة، بالعمل المدني الكبير في بناء مؤسسات الحرية، وفتح كل أبواب الحريات التي أوصدها النظام السابق منذ 54 عاماً، وهنا أحيل إلى الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار في كتابه باب الحرية (دار الطليعة، بيروت ـ لبنان، 2003)، وهي مسؤولية وطنية لكل التيارات السياسية (إسلامية أم حداثية)، وكذلك لكل القوى المدنية الحية، ومن دونها لا حياة كريمة للسوريين، ولا مكان أيضاً لسورية الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1ـ انظر أحمد برقاوي في الندوة الفكرية التي نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود تحت عنوان: سوريا الحاضر والمستقبل: بين الآلام والآمال. الرابط الالكتروني:
2ـ إن قانون الطوارئ في سورية قد بدأ تطبيقه منذ ما سمي بـ (ثورة الثامن من آذار) عام 1963، وبقي معمولاً به طوال فترة الأسد الأب، أي ثلاثين عاماً، وكذلك فترة طويلة من سلطة الأسد ـ الابن. واستبدل منذ سنوات بما يسمى قانون مكافحة الإرهاب. والإرهاب بتعريف الأسدية يمتد من داعش والقاعدة، ليشمل الفصائل المسلحة من المعارضة السورية، وبما فيها الجيش السوري الحر الذي أسسه الضباط السوريون المنشقون عن جيش النظام، وليصل إلى كل المعارضين لنظام الأسد ـ الابن. وفي بعض الخطابات يجري استثناء أفراد قليلين من المعارضة السياسية الداخلية. باختصار، يمكن أن نقول بأن نظام الأسد المخلوع كان يعتبر نصف الشعب السوري من الإرهابيين، وبالتالي، له الحق في أن يرميهم بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي.
3ـ يتحدث المفكر الإسلامي المستنير محمد حبش عن ما يسميه بـ (الإسلام الغاضب)، وصفاً للأيديولوجية الإسلامية التي يتبناها عناصر الهيئة، النصرة سابقاً.
- كاتب سوري