الدولة التي نريد، هي كثافة سؤال السوريين وحواراتهم اليوم وللمستقبل المنشود. وفي كل موقعة حوارية تبرز عديد الفرضيات التي ترصد صفات هذه الدولة ومضامينها كلٌ حسب ما يتصورها أو يعتقد أنها حقيقة واجبة التطبيق لخلاص الأمة من كوارثها التي أقامها نظام الاستبداد والإبادة الجماعية لحكم آل الأسد وعسكرهم. الدولة وسؤال الأحقية والاستحقاق في تعداد صفاتها: علمانية أو مدنية أو دينية إسلامية وقبلها المتفانية الماركسية أو القومية.. وجميعها صفات مسبقة تختزل مفهوم الدولة أمامها، طافية على سطح المشهد السياسي. فهل للدولة صفات بعينها أم أنها براء من هذا الاختلاط السياسي؟
الدولة والمصطلح:
حقيقة سؤال الدولة لا تكفيه مقالة بعينها بل دراسات وأبحاث وحوارات مجتمعية واسعة. فالدولة، الدولة الوطنية، تم تحديد مصطلحها ومفهومها الأساسي مشتقاً من الكلمة الألمانية “Staat” وتعني “الوقوف بحزم”، أو لاتينياً وباللغة الإنكليزية “State” وبالضرورة مفهوم “الوضع” القائم. وهذا الوضع القائم ليس قدري الصنع كما في الطبيعة وممالك الحيوان، بل يكتنف مفهوم الإرادة العامة للشعب. فالدولة هي السيادة مبدئياً، سيادة الأمة وقد التقت المصلحة العامة والقيم الوجودية للشعب بعمومه على التوافق وبإرادته العمومية على وضع قانوني وحيادي هي الدولة، تقوم بدورها الوظيفي، فهي:
أولاً تعمل على إدارة شؤون الناس اقتصادياً ومادياً وحياتياً واحترام قدراتهم وإمكانياتهم للمصلحة العامة.
وتدافع عن حقوقهم وفقاً للقانون الوضعي العام الذي يساوي بين الجميع بمرجعية الدستور ثانياً.
وتحمي حدود الإقليم أو الحدود الجغرافية ثالثاً.
الأسس والدعامات الأولية في تحقيق مفهوم الدولة واقعياً هي: السيادة، سيادة الشعب، الدستور كخلاصة نصية للعقد الاجتماعي والإرادة العامة للأمة وليس لجهة ما بعينها، والحدود الجغرافية التي تمتد عليها قوانين هذا المجموع البشري، والمؤسسات التي تدير شؤون الناس على أرضية هذه الثلاثية العامة.
ووفقاً لهذه الأدوار، فإن هذا الموقف الحازم أو الحالة الوضعية لهذا المصطلح وأساسه الإرادة الشعبية في تقرير مصيرها وتحقيق أمانها واستقرارها وعدالتها، فلا تفرق بين الأفراد من حيث الحقوق والواجبات، وتقوم على العدل والإنصاف والحياة الكريمة. وبالضرورة الدولة وضعياً هي مجموع المؤسسات التي تتعامل مع الشعب بمختلف أفراده ومكوناته بحيادية وبالتساوي من دون محاباة أو تمييز. فالمحكمة تفصل بين المتخاصمين حسب القانون العام لا حسب الانتماء الديني أو السياسي، والمستوصف الطبي والمشفى بقوم بالرعاية الصحية لكل فرد بالمجتمع وليس لعلماني من دون الديني أو العكس!
مصطلح الدولة لم يتوقف عند حد نظري بعينه، وتأخذ علوم الاجتماع والسياسة على تطويره وتحديثه. ورغم اختلاف مناهج بحثها العامة في التوصيف والتضمين والتحليل، لكنها جميعاً ترتكز على الأسس والدعامات الأولية في تحقيق مفهوم الدولة واقعياً وهي: السيادة، سيادة الشعب، الدستور كخلاصة نصية للعقد الاجتماعي والإرادة العامة للأمة وليس لجهة ما بعينها، أي ليس لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع في العهد البائد أو لأي جهة أخرى بديلة عنه اليوم، والحدود الجغرافية التي تمتد عليها قوانين هذا المجموع البشري، والمؤسسات التي تدير شؤون الناس على أرضية هذه الثلاثية العامة. وبالضرورة منوط بالدولة تحقيق وترسيخ حقوق الناس من حيث الاستقرار والأمان وصون الحقوق من دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي، ومن دون تغول سياسي أو جهوي من فرد أو جهة على آخرين. من هنا كان المصطلح النافذ في عالم السياسة العصري دولة الكل المجتمعي، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة المتساوية، ليس مصطلحاً وحسب بل تعبير وتجسيد فعلي للسيادة والتعاقد الاجتماعي وتحقيق الأمن والأمان والحماية بآن.
في نقاش الفرضيات الراهنة:
في سياقنا السوري الحالي، أتساءل مع من يتساءلون حوارياً حول سؤال الدولة وما يجب أن تكون عليه بأي من صفاتها المفترضة وفق فرضيات عدة، والسؤال غرضه التفريق بالملامسة والتجربة والحوار العقلي الهادئ وصولاً لنتائج واقعية. ففي المبدأ وجد مفهوم الدولة حتى يقطع مع طاعة الإنسان أو المجموع البشري لفرد أو جهة بعينها. وبالضرورة لتكون الإرادة العامة متمثلة بحالة وضعية محايدة يقبل بها المجموع البشري نافية شرعية أية جهة تعيد أنماط إنتاج حكم الفرد أو الحزب أو الملّة.
الخلط بين السلطة والدولة مشهد سياسي ضبابي، فالسلطة ليست وكالة حصرية دائمة بل هي مجرد وكيل قصير العمر يوكل إليه صاحب السيادة، وهو الشعب، بتنفيذ أوامره وفق الدستور.
فرضية أن الدولة يجب أن تكون دينية/إسلامية أو يعبر عنها بدين الدولة هو الإسلام، فالإسلام دين الإخاء والمساواة والتسامح والمحبة، دين العدالة حيث لا فرق لعربي على أعجمي الا بالتقوى.. وهذا الحديث حق في زمنه، ولكن ماذا عن الأديان والطوائف الأخرى؟ ماذا عن غير المتدينين؟ ما يطرح فرضية مقابلة هي الدولة العلمانية وذلك للفصل بين الدين والسلطة السياسية. وهذا أيضاً حق، لكن ضبابية الموقف في هذا الحق يتجلى في الخلط بين مفهومي السلطة والدولة. فيما الغائب عن المشهد أن العلمانية هي ثقافة مجتمعية لا تنكر حق الأديان والتدين بكافة تنوعاتها، ولا تقف بمواجهتها. وثقافة العلمانية لا تفترض أن هناك انقسام مجتمعي بين الديني أو اللاديني، وتخرج من هذه الثنائية الهدامة، لمفهوم الحقوق العامة والقانون الوضعي والعمل التشاركي لبناء المجتمع. وبالضرورة تصبح العَلمانية صفة مجتمعية ثقافية زمنية قابلة للحوار لا للإنكار أو فرض إرادة لجهة على الآخرين، وبالضرورة ليست من صفات الدولة أو تختزلها فيها. وبين هاتين الفرضيتين تبرز فرضية الدولة مدنية، ويعني تحييد حكم العسكر والسلطة عن رقاب الشعب، وهذه وضوحاً صفة السلطة السياسية كإحدى مؤسسات الدولة المحدودة زمنياً وليست صفة الدولة بعامها. فالسلطة ليست وكالة حصرية دائمة بل هي مجرد وكيل قصير العمر يوكل إليه صاحب السيادة، وهو الشعب، بتنفيذ أوامره وفق الدستور.
الخلط بين السلطة والدولة مشهد سياسي ضبابي، فماذا لو كانت الدولة ماركسية أو قومية.. وجميعها صفات سلطة وفقط، فلازلنا نعاني من كوارث إحلال الدولة ومؤسساتها في السلطة ذاتها. وسلطة البعث العسكري البائد شاهد لا تخطئه عين.
وحيث تبدو كل فرضية بذاتها مكتملة الأركان بمسلماتها وبديهياتها ونتائجها، وفق منطق صوري مكتمل الأركان فالنتيجة متضمنة بالمقدمات سلفاً، وما علينا سوى اتباع ذات المنطق للوصول للدولة التي تريد، وما على المواطن سوى أن يلتحق بإحدى هذه النماذج من الصفات وسنصل لجنة الفردوس! ولا ننسى في هذه الأثناء أن نلقي بالويل والثبور وعظائم الأمور على من ضيع حلم الدولة “الحق” دينية أو علمانية أو غيرها والبقية فرق ضالة، والضلال هنا كل خارج عن صفة ما دون الأخرى. ما يجعل التنافس العام على الصفات بعيداً عن كل البعد الدولة بقدر أنه تنافس على الوصول للسلطة بحجة الدولة، والدولة براء من هذا جميعاً.
القول الحق بالحكم المدني يعني أنه من حق أي جهة سياسية مدنية الوصول للسلطة على أرضية الدولة المحكومة بالدستور والقانون ذو السيادة العامة مبدئياً، فنقول سلطة البعث السياسي، سلطة مجلس السوفييت الأعلى، سلطة رجال الدين، سلطة وسلطة وسلط.. ولكنها ليست سلطة العسكر؛ وبالضرورة تحييد العسكر عن الحكم وإعطاؤها مهمة أساسية في بناء الدولة هو حماية الحدود والأرض. وبالمقابل لنذهب باتجاه الثقافة المجتمعية التي تحتاج لزمن من الحوارات المجتمعية ودور الثقافة والمثقفين والمجتمع المدني في تعزيز مفهوم الحرية بكل أطيافها الفكرية والسياسية والإيمانية والتعبيرية والأدبية، وهذه ليست سمة الدولة بل سمة المجتمع بتطور حلقاته الزمنية. ليصبح القول بأي صفة للدولة قول نافل عن الحقيقة والسياق الموضوعي لبناء المجتمعات. ويصلح هنا التكرار في القول بالدولة الحيادية تجاه الجميع والتي تعادل مقولة دولة الكل المجتمعي، وما السلطة والحكم سوى إحدى مؤسساتها الرئيسية وليست كل الدولة.
خلاصة القول، الدولة ليست دينية ولا عَلمانية، وهذه تطلب مقالات وحوارات أوسع، فيما سؤال السياق والصيرورة سيبقى محط نزاع بشري طبيعي، يحتاج زمنه للاستقرار والانتظام، وهذا ما عبر عنه توماس هوبز، قبل أن تصل إنكلترا وبعدها فرنسا ودول أوروبا عامة التي نناقش فرضياتنا بدلالتها، للاستقرار والأمان والعدالة والحرية أس الدولة وأساسها قبل صفات نظام حكمها!
- تلفزيون سوريا