عندما خرج السوريون ثائرين على نظام الأبدية في آذار 2011 مطالبين بالحرية والعدالة والكرامة، لم يحسبوا حساب وقفة كل شياطين الأرض وشذّاذ الآفاق مع أسدية الاستبداد، واكتشفوا متأخّرين أنه ربيبهم وخادمهم الوظيفي الأهمّ في المنطقة، ولم تدرك أكثر قواهم السياسية والمجتمعية، أن إسقاط الأسدية مرتبط بسقوط منظومة كاملة تتحكّم بالمنطقة، وسقوط أحدهما مرهون بالآخر! والجميع مُرتَهن لتوافقات دولية واتفاقات إقليمية بينيّة، ومصالح تتقارب لتتطابق حيناً، وتتباعد لتتناقض أحياناً، فكانت الكلفة كبيرة، والمعاناة مضاعفة أضعافاً، عمّا جرى في كل البلدان التي مرّ بها الربيع العربي بكل موجاته.
يُقال: إنها لعنة الجغرافيا.. ويقال: إنها حظوة التاريخ! والقول الفصل كان للسوريين في 8 كانون الأول2024، ووظّفوا الأولى لتخدم الثانية، وكان الملاط تغيّرات موازين القوى في المنطقة، ليكون نصراً مبهراً، لُحمته السرعة، وسداه الإصرار، إذ تراكمت مع السنين معاناة السوريين، وكبرت قضيّتهم وأثقلت ملفات المنطقة، فوظّفوا قواهم وقدراتهم ووعيهم في خضمّ المتغيّرات المحيطة ومتطلّبات المرحلة، وخبروا الظرف الإقليمي والدولي، والتوافقات بين مختلف القوى المتصارعة ومصالحها في سورية منذ انطلاق الثورة السورية 2011، وصولاً إلى حرب غزة، وتالياً إنهاء فاعلية حزب الله والميليشيات الإيرانية وقيادتها التي جعلت سورية رئة تتنفّس منها المنظمات اللادولتية، وكان لا بدّ من إنهاء وظيفة النظام، وهو يمثّل درّة المشروع الإيراني.
ذكرى الثورة الرابعة عشرة مازها الانتصار الذي تحقّق بعد كل التضحيات والدمار، وآل الطاغية جباناً فارّاً، عفّش ما بقي من أموال السوريين، وصارت آلته العسكرية وأجهزته الأمنية فلولاً تتقاذفها الغابات والجبال، وكانت الفرحة الغامرة بحرَ حرّية يسبح في لجّته السوريون، بعد عبودية استمرت أكثر من خمسة عقود، وتنفّسوا الصعداء بانقشاع الهمّ واقتحام المعتقلات والسجون، وكشف الجرائم التي اقترفها نظام الأبدية، يحدوهم التفاؤل بمستقبل واعد، يشاركون في صوغه عبر حوار وطني واسع ومخرجات دستورية تُشرعن للمرحلة الانتقالية، بلا إقصاء لأي مكوّن إثني أو ديني أو طائفي أو سياسي أو مجتمعي.
انهارت الأسدية وهرب ضباعُها، وأُجبِر حماتُها الروس والإيرانيون على سحل خزي مشاريعهم، وفتحَ العالم عيونه مرغماً على حقيقة شعب ناضل وضحّى وعانى، لينهض مشروع سورية الموحّدة الديمقراطية المتعددة، دولة المواطنة والقانون والمساواة، وهو الأمل العظيم لشعب عظيم
ودون الهدف العظيم مصاعب معقدة تستوجب التضحيات، إذ لا بدّ للإدارة الجديدة في خِضمّ صراعها مع محاولات فرض الشروط الخارجية والسعي لرفع العقوبات الغربية، وفكّ إشكالات المعاناة الاقتصادية والمعاشية لملايين السوريين واللاجئين والنازحين، وبناء الدولة على عقد اجتماعي يقرره السوريون، وإعادة الإعمار واستعادة السيادة، وإقرار العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، أن تسحب صواعق التفجير لكل الأزمات والاختناقات التي تتسابق لتفرض نفسها على الساحة السورية. فمن الشمال والشمال الشرقي الذي لمّا تنته حلحلة مشاكله وتشعّباتها، إلى الجنوب الذي بدأت أنياب إسرائيل تنهش أطرافه بعد السيطرة على كامل الجولان، وتنفث سمومها مشروعاً تقسيمياً بدعوى حماية الأقليات، إلى فلول النظام التي يُفترض تسليمها سلاحَها وسفّاحيها، لكنها انتظمت في الساحل، تدفعها إيران ويدعمها حزب الله، لإشعال حرب أهلية عبر اصطفافات لا تبقي ولا تَذر، فشرعت بمجازر بشعة، لم يتأخر الردّ عليها بمجازر أبشع! وليس أخيراً.. زوبعة الانتقاد للإعلان الدستوري المؤقت وما فيه من عور، وقبل ذلك ما أثاره ” يوم ” الحوار الوطني –السريع- الذي كان شكلاً بلا محتوى حقيقي..
أمام كل ما حدث ويحدث وسيحدث، من تطورات مبهجة أو تجاذبات مؤلمة أو استعصاءات معرقلة، لا دواء لكل أدواء الأسدية، ولا وَقْف لمشاريع الخارج وسمومه إلا ترياقَ مشاركة كل السوريين، ودعمه وإثرائه بغِنى تنوّعهم وأفكارهم في صوغ سورية الجديدة التي يرتضونها، ويتجاوزون المصاعب بتنازلات مؤلمة للجميع، لتكون دولة مواطنة وقانون وتشارُك وتعدُّد يتساوى فيها الجميع، وعندها ترتفع رؤوسنا، وتصدح حناجرنا معاً: ” سورية تنتصر “.
- رئيس التحرير