ما هي المؤشّرات التي توحي بهويّة وطنيّة معيّنة عند الاستماع إلى قطعة موسيقية ما؟ هل هو اللحن المرتبط بأشعار من ذلك الوطن دون غيره؟ أم أن ثمة لغزا موسيقيا صِرفا في الأمر؟ وكيف يوظّف مؤلف ما كل ما في جعبته من أدوات لصقل هوية موسيقية خاصة بوطنه إذا ما كانت جذور ذلك الوطن الثقافية متشابكة مع جيرانه من الأوطان؟ أي كيف نحدد هوية مؤلف ما إذا كان مسقط رأسه في دولة ما ثم تغيّر ترسيم الحدود فغدا داخل دولة ثانية ثم أمسى داخل ثالثة؟ وماذا إذا أقدمت إحدى هذه الدول على اجتياح جارتها بغية إلغاء هويتها الوطنية والثقافية وضمّها إلى الوطن الأم، تماماً كما يحصل الآن في أوكرانيا؟
ثمة مؤلف يُدعى سباستيان زَه فَلشتِينا (1480 أو 1490 – بعد 1543) تدّعيه كلٌّ من أوكرانيا وبولندا لأن قرية فلشتينا (سكَيليفكا الآن) التي نُسب إليها، تقع اليوم داخل الحدود الأوكرانية الغربية المتاخمة لبولندا رغم أن أراضي بولندا كانت تضم في ذلك القرن ما هو أبعد من تلك القرية بكثير. وثمة مؤلفون آخرون تدّعيهم كل من أوكرانيا وروسيا وليتوانيا، وثمة مَن تدّعيهم كل من أوكرانيا وسلوفاكيا ورومانيا، وهلمّ جرّا…
أمّا المؤلف الأوكراني الأول الذي كتب أوبرا بنصّ أوكرانيّ، وهي «عرس أوكراني» (1851) فكان سَيمَين (أو سمعون) هُولاك-آرتَيمَوفسكي (1813-1873) أردفها بثانية عنوانها «إيفان كُوبَولا» (1852). ولعل أشهر أوبراته «قوزاقيّ عبر الدانوب» (1863). ولا شكّ أن لاختيار اللغة أبلغ الأثر على مسامع الحضور، فما بالك إذا لم يكن أحدٌ قد خلّد تلك اللغة في أوبرا قطّ؟
ثم جاء المؤلف ميخائيلو فَربيتسكي (1815-1870) فكتب النشيد الوطني الأوكراني في 1863 استناداً على قصيدة للشاعر الأوكراني بافلَو تشوبينسكي (1839-1884) بعنوان «مجد أوكرانيا لمّا يزل يتألّق» وهو النشيد الذي كان الناشطون في ساحة اليورو-ميدان في كييف في السنوات الأخيرة يغنّونه كل ساعة والذي أخذت الفرق السمفونية في دول شتى من العالم تؤديه تضامناً مع الشعب الأوكراني منذ بداية العدوان الروسي في 24 شباط/فبراير 2022.
وتلى هذين المؤلفَين الموسيقار والأستاذ ميكولا لِيسَنكَو (1842-1912) الذي أرسى قواعد المدرسة الأوكرانية الموسيقية ودرّس أجيالاً من المؤلفين الشباب، فراح يوثّق أكثر من خمسمئة أغنية شعبية أوكرانية ويوزعها لجوقة الغناء من دون مرافقة الآلات أو بمرافقة البيانو، أو للغناء المنفرد بمرافقة البيانو. وأبرز خصائص الموسيقى الأوكرانية في مؤلفاته الأصلية، ولعل أشهرها «دعاء لأوكرانيا» التي صارت النشيد غير الرسمي، الأمر الذي دفع بالنقّاد الموسيقيين إلى تلقيبه أباً للموسيقى الأوكرانية، وبخاصة لإصراره على نشر جميع مؤلفاته الغنائية وادائها بلغته الأم وليس بالترجمة الروسية، رغم تعرضه للمنع المتكرر على يد الرقيب الروسي إبّان الحكم القيصري، فما كان منه إلاّ أن نشر مؤلفاته في دول الخارج.
هكذا، إذاً، اكتملت مرحلة التأسيس للهوية الموسيقية الأوكرانية، ما فتح المجال لمؤلفين أوكرانيين كُثُر ممّن أضافوا ونوّعوا وجدّدوا في فن التأليف الموسيقي الأوكراني، وهو ما شكّل بدوره إغناءً للحياة الثقافية في ذلك البلد، إذ إن الموسيقى لا تنشأ بمعزل عن سائر الفنون.
وأذكر من أولئك المؤلفين ستانِسلاف ليودكيفيتش (1879-1979) وسرغيه بروكوفيَف (1891-1953) وبوريس لياتوشِنسكي (1895-1968) وستيفانيا توركيفيتش (1898-1977) وميروسلاف سكوريك (1938-2020) وفالنتين سِلفَسترَوف (1937-) الذي تم إخلاؤه من أوكرانيا بمعونة أصدقائه بُعيد بدء الغارات الروسية على العاصمة كِيِيف. وكان سلفستروف قد ألّف «اللوحة المزدوجة» لجوقة الغناء مرتكزاً على قصيدة «تركة» (1845) المفصلية للشاعر الوطني الأوكراني تاراس شفتشينكو (1814-1861) وأهداها إلى ذكرى سرهيه نجويان الأوكراني-الأرمني، وهو أول شهيد في ثورة 2014 الأوكرانية.
واشتهر ليودكيفيتش بالأوبرا «دوفبوش» (1955) وبأعمال سمفونية عديدة، كما كان قد درس نظريات الموسيقى في فِييَنّا مما أهلّه للتدريس في ذلك المجال في أكاديمية لفيف الموسيقية في غربي أوكرانيا. كما اشتهر لياتوشِنسكي بأوبراته الثلاث وبسمفونياته الخمس وبرباعياته الوترية الخمس كذلك، وله أعمال متنوعة أخرى في مجال الموسيقى المرافقة للمسرحيات والأفلام.
وعُرفت توركيفيتش بأوبرا «قلب أوكسانا» (التي تمّ أداؤها في كندا في 1970) وبعدة أعمال للاوركسترا ولجوقة الغناء وللباليه وللبيانو المنفرد. وكانت المؤلفة قد هاجرت إلى النمسا في 1946 ثم إيطاليا ثم بريطانيا حيث قضت في كيمبرج. كما عُرف سكوريك بعدد لا بأس به من الأعمال لتشكيلات عديدة من الآلات والأصوات، واشتهرت قطعته للبيانو المنفرد بعنوان «بُورلَسكَه» التي لا تزيد مدة عزفها عن دقائق خمس، بأن مسابقات عالمية شتى تشترط عزفها في جولات التصفية الأولى. وهاجر سكوريك هو الآخر إلى أستراليا في 1996 لكنه ما لبث أن عاد كي يستقر في كييف حيث تم تعيينه مديراً لدار الأوبرا فيها في 2011.
أمّا المؤلف الأوكراني المولد الأكثر شهرة والأغزر إنتاجاً فهو بروكفيف دون أدنى شك، إذ إن له سبع أوبرات، منها «الحرب والسلم»، وسبع سمفونيات وثماني باليهات، منها «روميو وجولييت» وموسيقى للفيلمَين «ألكساندر نَفسكي» و«إيفان الرهيب» وخمس كونتشيرتوات للبيانو والأوركسترا وكونتشيرتوين للكمان والأوركسترا وكونتشيرتو للتشيلو والأوركسترا وسمفونية-كونتشيرتو للتشيلو والأوركسترا مهداة إلى مستسلاف روستروبوفيتش (1927-2007) كما أن له تسع سوناتات للبيانو المنفرد إضافة إلى ما يناهز مئة عمل آخر.
وتعجّ حياة بروكوفيف بالمفارقات، إذ كان قد وُلد في منطقة دونيتسك (التي احتلتها ميليشيات تابعة لروسيا في 2014) وبعد أن اشتهر بعزفه على البيانو وبمؤلفاته الأولى على مدى العالم، نجح في إقناع المفوض السوفييتي في شؤون الموسيقى بأن يؤذن له بالإقامة في الخارج لمتابعة فرصه في العمل، فانتقل إلى الولايات المتحدة أولاً ثم إلى ألمانيا ثم إلى باريس. لكن الكساد الكبير في الثلاثينات، وشحّة فرص العمل في الغرب التي نتجت عنه، جعله يعود إلى الاتحاد السوفييتي في 1936 فاصطدم بمفوضي الموسيقى الجدد المتعجرفين الذين أقدموا على إدانته (إضافة إلى مجموعة من معاصريه) عن طريق المكتب السياسي، وهو أعلى سلطة في البلاد، في مقال في صحيفة «البرافدا» الشهيرة في 1948 بتهمة التأليف على النحو الشكلي، أي النشاز، لا حسب المبادئ النقية التي كانت تمليها عليه حكومة ستالين. وبناء على ذلك، تمّ منع ثمانية من قطعه، ولولا دعم العديد من زملائه من الفنانين وغيرهم لتمادى هؤلاء المفوضون وحاولوا إقصاءه ومعاصريه إلى سيبيريا.
وثمة نكات لها أول وليس لها آخر تدور حول تزامن موت بروكوفيف مع ممات ستالين في الخامس من آذار/مارس 1953! بَيد أن المفارقات لا تنتهي بانتهاء حياة هذا المؤلف، حيث أخذ العديد من الفرق السمفونية في الغرب بُعيد عدوان بوتين بإلغاء قطعه من برامج كانوا قد خططوا لها منذ أشهر أو سنين بحجة أن إلغاءهم لموسيقاه يشكّل عقاباً لروسيا على هجومها على أوكرانيا. ولا بد أن فرائص بوتين لترتعد جرّاء هذا الإلغاء المجلجل!
وكأن ثمة إمعاناً في المفارقات المركّبة، فمطار دونيتسك كان قد أعيد تسميته باسم بروكوفيف، وأكاديمية الموسيقى الكائنة في تلك المدينة كذلك، وهناك مسابقة موسيقية سنوية تحمل اسمه في العاصمة كييف، أي أن الأوكرانيين يدّعونه لأنفسهم ويفتخرون به! أين المنطق في أن تلغي فرقة سمفونية غربية أداء قطعة لمؤلف أوكراني المولد بحجة التضامن مع الشعب الأوكراني؟
وعلى صعيد آخر، قامت فرق غربية أخرى بإلغاء عزف قطع لتشايكوفسكي، وكأن تشايكوفسكي (1840-1893) يمثّل بوتين! تُرى ألم يكن من الأجدر بمدراء تلك الفرق الغربية أن يضيفوا إحدى القطع العديدة للمؤلفين الأوكرانيين الذين ذكرتهم آنفاً، وهي غيض من فيض، كي تجسّد تضامنها مع أهل أوكرانيا؟
أمّا جامعة ميلانو فقد انفردت بإلغاء مساق يُعنى بأعمال دوستويفسكي! وهو الذي كان القيصر قد أقصاه إلى سيبيريا فعلاً بتهمة قراءته لكتب ممنوعة! ولحسن الحظ كانت ردة الفعل على شبكات التواصل الاجتماعية سلبية وفي محلها إلى الدرجة التي جعلت إدارة الجامعة تتراجع عن قرارها المضحك-المبكي ذاك.
يا ترى بماذا تطالعنا الصحف في الغد؟ هل سيتم الإعلان عن عمليات حرق لكتب دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وتشيخوف ولنصوص تشايكوفسكي وريمسكي-كورساكوف وشوستاكوفيتش الموسيقية؟
وماذا عن باليه تشايكوفسكي الشهير «كسّارة البندق» (1892) الذي تدور أحداثه في عيد الميلاد وتقدمه الأغلبية السّاحقة من فرق الباليه العالمية في كانون الأول والثاني من كل سنة؟ هل سيتمّ إلغاؤه هو الآخر نكاية بالحاكم الروسي الحالي؟
صدق مَن قال إن البشرية لا تأخذ بعبر التاريخ، بل تكرره إلى ما لا نهاية!
“القدس العربي”