مع اشتداد الصراع الغربي الروسي في إطار النزاع الدولي، والذي بدت أول خطواته العملية من خلال الصدام المباشر في الحرب الأوكرانية من جراء رغبات الأخيرة الانضمام لحلف شمال الأطلسي، تصاعدت التخوفات الأمنية لدى الدول الاسكندنافية ولا سيما كلٍ من فنلندا، والسويد بتوجهات روسية لشن عملية عسكرية جديدة على طول الحدود.
مع توافر مجموعة من العناصر الأساسية في إطار الجو الدولي الجذاب بالنسبة لموسكو للإقدام على هذه الخطوة هذا ما عدا الخلافات الأزلية التي تعود لقرون عديدة. إذ، خاضت كل من فنلندا والسويد حروبا عديدة بينية لكن أهمها كانت تلك التي سميت “حرب فنلندا” بعد انتصار السويد في العام (1804) والتنازل عن فنلندا لصالح روسيا. وعلى هذا الأساس بقيت فنلندا جزءاً من السيادة الروسية. قبل اندلاع الثورة البلشفية عام (1917) وتنازل السوفييت عنها.
لكن، مع عودة القابلية الدولية في إطار نزاع شامل خلال الحرب العالمية الثانية، وتوقيع الجانبين الروسي- الألماني على اتفاقية “عدم الاعتداء” في العام (1939)، ركزت موسكو على تأمين حدودها الإقليمية مع فنلندا من خلال مطالبتها بتسليم خليج فنلندا، وميناء خانكو، ومنطقة الكارليان لها.
واجهت هلسنكي، هذه المطالب بالرفض مما أدى لنشوب “حرب الشتاء” بين البلدين ساعدت الروس لانتزاع السيطرة على الدولة، قبل عقد توافق/ تسوية جديدة عام “1948” بين البلدين استعادت بموجبها فنلندا السيادة بشرط التزامها سياسة الحياد برفقة عدة دول على رأسها؛ فنلندا، السويد، النمسا، وسويسرا.
نبهت أنقرة في مناسباتٍ عديدة الدول الاسكندنافية، على رأسهم السويد وفنلندا، بضرورة وقف دعم تنظيم “حزب العمل الكردستاني” داخل تلك الدولة أو خارجها
وبعد هذه السنوات الطويلة، يبدو أن دول المنطقة، باتت بالفعل تفكر بجدية الانتقال من سياسية الحياد إلى الاصطفاف بجانب المحور الأوروبي-الأميركي، بعد الإعلان الرسمي في أيار/ مايو، 2022 من قبل فنلندا، ومن ثم في اليوم التالي من قبل السويد، وذلك لمجموعة أسباب ربما أهمها؛ التخوفات من غزو روسي محتمل لخلق حالة من الفوضى الأمنية في القارة الأوروبية وهو السبيل الوحيد لتشتيت الأنظار عن غرقها في المستنقع الأوكراني، واستغلال لحظة الارتباك الروسي لتجاوز التفاهمات المشتركة بشأن الحياد.
لكن، هذا الانضمام قد تعرقله تركيا من خلال إشارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، باستخدام حق النقض الفيتو في حلف شمال الأطلسي المكوّن من 30 دولة، حيث يتخذ القرار بحسب القواعد القانونية والإجرائية بالإجماع الكلي وهذا يعود لاتهامات أنقرة لتلك الدول بدعم تنظيم حزب العمال الكردستاني.
نبهت أنقرة في مناسباتٍ عديدة الدول الاسكندنافية، على رأسهم السويد وفنلندا، بضرورة وقف دعم تنظيم “حزب العمل الكردستاني” داخل تلك الدولة أو خارجها وذلك على مدار السنوات الماضية، لكن دون استجابة.
إذ تتهم تركيا، تلك الدول بدعم الحزب حتّى داخل الأروقة السياسية، لا سيما في البرلمانات، وتعتقد أن هناك ٦ نواب في البرلمان السويدي مرتبطون بالتنظيم، ومتوزعون على خمسةِ أحزاب وهم؛ (١) الحزب الديمقراطي (٢) الحزب الليبرالي (٣) حزب السويد الديمقراطي (٤) حزب اليسار (٥) الحزب الاجتماعي، أو متورطون بالمشاركة بأنشطة قتالية مع الحزب في مناطق مختلفة في تركيا والعراق على رأسهم “أمينة كاكابيفا” ممثلة حزب اليسار في البرلمان السويدي ومن ثم كعضوٍ مستقل. التي تعتبرها أنقرة حلقة الوصل بين الحزب والحكومة السويدية.
هذا الاتهام، ينطبق على معظم دول تلك المنطقة من وجهة نظر تركيا. لكن مواقف السويد المعادية لتركيا عبر المواقف السياسية هي من تدفع أنقرة لاستخدام الفيتو وربما تتجسد تلك المواقف بالتحديد خلال اضطرابات العام (2014) المرتبطة بإعادة بناء “حديقة جيزي”، أو خلال العمليات التركية في سوريا لا سيما بعد العام (2018) أي “غصن الزيتون” و”نبع السلام” لاحقاً وتهديدها بسحب السفير، وفرض حظر عسكري، وزيارات رسمية لوفد خاص أهمها في تشرين الأول/ أكتوبر، 2020 برئاسة المبعوث السويدي الخاص إلى سوريا “بير أورنيوس” لمناطق الإدارة الذاتية.
إنَّ الحرب الأوكرانية أفرزت أوراقا جديدة بالنسبة لأنقرة، لممارسة ضغط جديد يتعلق بنقل تخوفات أمنية كانت على حدودها بدعم من دول الاسكندنافية إلى حدود الأخيرة. لذا، ترى من المهم في مكان استغلالها والاستثمار بها خير استثمار عبر رفع حق النقض في الحلف.
هذا يعني بطبيعة الحال وضع تلك الدول في موقفٍ محرج قد يدفعها لإيقاف دعم التنظيم لتحظى بثقة تركيا، التي أشارت إلى أن قرار الرفض ليس نهائيًا. مع ذلك، تُصدّر، أن الخلاف هو بطبيعة الحال لدعم الدولتين لتنظيمات إرهابية.
لكن، الحقيقة هي أنّ الأسباب المقدّمة “قد” لا تعدو عن كونها مجرد غطاء لتحقيق مكتسبات أكبر تتجسد في؛ الحفاظ على توازنٍ مستمر في الملف الأوكراني، وعدم الغرق في الانحياز الصفري. أي هو استكمالٌ للمسار التركي، في التعاطي مع الملف حيث سبق وأن امتنعت أنقرة، عن تعليق عضوية روسيا في المجلس الأوروبي. وبطبيعة الحال، تسعى أنقرة، من خلال هذه المناورة لكسب ثقة موسكو بشكل أكبر مما قد يساعد على تطوير التفاهمات المشتركة الخاصة بالمحيط الحيوي التركي، على الأقل شرقًا “قره باغ” وجنوبًا “سوريا”.
كما تتطلع، لإعادة تحريك ملف عضوية “الاتحاد الأوروبي” – مع أنّها تظهر عدم اهتمامها بالمقارنة مع الفترات السابقة- من جديد عبر طرح إمكانية التوصل لتفاهمات مشتركة متبادلة كون الدولتين من المعترضين على انضمام أنقرة.
فضلاً، عن ممارسة ضغط أكبر على واشنطن، بهدف دفعها للتراجع عن بعض الخطوات التي اتخذتها وخاصة المتعلقة بمنح استثناءات للإدارة الذاتية في سوريا بشأن الاستثمارات أو ملفات أخرى أمنية مرتبطة بسوريا والعراق ربما تشمل رغبات رفع الغطاء عن مناطق معينة.
هذه الورقة التي تملكها تركيا في الناتو “الفيتو” عندما استخدمتها ضد انضمام “اليونان” في الربع الأخير من القرن المنصرم، دفعت واشنطن لدعم انقلاب عسكري مطلع ثمانينات القرن الماضي
قد يظهر لوهلة أنّ الملف ليس بهذا الحجم، لكن عند النظر إلى المعطيات الدولية من حيث واقع الأمن القومي الأوروبي والتوقيت الزمني، فهو خطير بسبب رغبات روسيا، بتوسيع حربها للبحث عن مخرج من مستنقع وقعت فيه.
وهذا بالنسبة للروس، غير ممكنٍ دون خلق فوضى أمنية واسعة عبر استهداف دول أخرى، وتشتيت دول الاتحاد الأوروبي وخلق مساحات للاشتباك السياسي، وزيادة الهوّة في المواقف والأولويات والمخاطر.
الجدير بالذكر، أنّ هذه الورقة التي تملكها تركيا في الناتو “الفيتو” عندما استخدمتها ضد انضمام “اليونان” في الربع الأخير من القرن المنصرم، دفعت واشنطن لدعم انقلاب عسكري مطلع ثمانينات القرن الماضي – الثاني في تاريخ الجمهورية-، ليقبل العسكر بعدها بعضوية اليونان.
على العموم، تراهن تلك الدول على إقناع أنقرة بضرورة التراجع عن موقفها حيث يزور وفد خاص لتلك الدول تركيا لبحث الأمر. مع ذلك من الصعب أن تكتفي تركيا، بمواقف سياسية سبق أن أعلنتا عنها هيلسنكي واستوكهولم بعدم دعمهما لحزب العمال. وهذا يدفع للاعتقاد بأنَّ التنازلات التركية تتطلب على الأقل مكاسب عملية مرتبطة بتفعيل مسار مع واشنطن لرفع الغطاء عن مناطق في سوريا لشن عملية عسكرية.
“تلفزيون سوريا”