عملية الإحصاء السكاني في شمال شرق سورية: إعادة هندسة المجتمع ديموغرافيًا لأغراض سياسية

رشيد حوراني

المحتويات

مقدمة

أولًا: ميثاق الهيكلة للإدارة الذاتية

ثانيًا: الإحصاء السكاني انعكاس لتباين التيارات السياسية

ثالثًا: الأهداف غير المعلنة التي تقف خلف عملية الإحصاء السكاني

رابعًا: توافق ميثاق الهيكلة مع الأهداف الرئيسة لعملية الإحصاء السكاني

خامسًا: العوامل المؤثرة سلبًا في عملية الإحصاء

خلاصة

الملحق: يتضمن “ميثاق الهيكلة؛ وثيقة تفاهم”

مقدمة

أصدرت “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، في 12 شباط/ فبراير 2022، “العقد الاجتماعي لشمال وشرق سوريا”، الذي توصّلت إليه جلسات حوارية جماهيرية دُعي إليها الأقرب ولاءً لها من متنفذين وموظفين[1]. وامتنع كل من أحزاب “المجلس الوطني الكردي” و”المنظمة الثورية الديمقراطية الأشورية” و”الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي”، عن المشاركة في كتابة مسوّدة العقد[2]؛ لأنها وُضعت كعقد من طرف واحد لجهة حزبية محددة، وفق تصوراتها وأهدافها، بعيدًا عن المشاركة الفعلية والتوافق بين كل الأطراف السياسية والاجتماعية[3].

ونظرًا لاتباع “الإدارة الذاتية” أساليب مختلفة تتضمن في طياتها مخططاتٍ، تخدم مشروعها المتمثل بإنشاء كيان على شكل فيدرالية ضمن مناطق سيطرتها، وتُمكّنها من تشريع وقوننة سياساتها الداخلية وإقناع الشعب بها كسلطة أمر واقع، وتضغط بها على بقية الأطراف الداخلية والخارجية، لتقديم تنازلات تخدم رؤيتها (أميركا، تركيا، النظام السوري، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”؛ أعلنَ مكتب التخطيط والتنمية والإحصاء لإقليم الجزيرة وهيئة التربية والتعليم بدء عملية الإحصاء السكاني، في 7 أيار/ مايو 2020، ليشمل كلّ المدن والنواحي والبلدات والقرى في الجزيرة، على مراحل متعددة بدأت من مدينة القامشلي، تحديدًا من “نواحي وبلدات ديرك”[4].

أولًا: ميثاق الهيكلة للإدارة الذاتية

تتألف “الإدارة الذاتية”، من الناحية الجغرافية، من سبعة أقاليم (الرقة، دير الزور، الجزيرة تضم الحسكة والقامشلي، منبج وريفها، الطبقة، الفرات يضم كوباني وريفها، عفرين)، ويوجد في كل إقليم مجلس مدني، وفي كل مجلس مدني يوجد مكتب للتخطيط والتنمية والإحصاء، ويتبع المجلس المدني في كل إقليم من الأقاليم السبعة للمجلس التنفيذي أو ما يسمّى “الحكومة”، وفق نظام اللامركزية الإدارية.

ويتألف الهيكل التنظيمي للإدارة الذاتية، من الناحية الإدارية والبنى المؤسساتية، من (المجلس العام للإدارة الذاتية “برلمان شمال وشرق سوريا الذي يُعيّن أعضاؤه تعيينًا حتى الآن”، ومجلس العدالة الاجتماعية “القضاء”، والمجلس التنفيذي “الحكومة”). ويتبع للمجلس التنفيذي “الحكومة” هيئات ومكاتب متخصصة في مختلف المجالات الاجتماعية والتعليمية والمالية والاتصالات والطفل والبيئة.. وفق الشكل رقم (1) المرفق أدناه.

 مكتب التخطيط والتنمية والإحصاء

يُعدّ المكتب المذكور المسؤولَ الأول عن عملية الاحصاء السكاني، وهو أحد مكاتب المجلس التنفيذي “للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا”، ويُبين تتبع عمله أنه في طور التأسيس ويحتاج إلى برامج ذات رؤية واضحة، وإلى خبرات وكفاءات قادرة على تنفيذ المهام المنوطة به، وذلك بدليل أنه عقد اجتماعه الدوري يوم الأحد 26 حزيران/ يونيو 2022 (بعد انطلاق عملية الإحصاء السكاني بأكثر من شهر). ويذكر أن أحد مخرجات اجتماعه إنشاء نظام داخلي موحّد لمكاتب التخطيط والتنمية والإحصاء في الإدارات الذاتية والمدنية[5]، على الرغم من مضي قرابة عامين على تأسيسه، إضافة إلى تفاوت إنجازه وتقدمه في عملية الإحصاء، حيث تمكن من تنفيذها في بعض المناطق، كالرقة وإقليم الجزيرة، ولا تزال معلقة في مناطق أخرى، كالطبقة ومنبج، ولم يستطع تجاوز العراقيل التي واجهها في مدينة دير الزور[6].

ثانيًا: الإحصاء السكاني انعكاس لتباين التيارات السياسية

تزامنت عملية البدء بالإحصاء السكاني مع الكشف عن عمليات التزوير في الأوراق الرسمية، التي باتت شائعة جدًا في مدينة الحسكة، وخاصة في “دائرة النفوس” التي تقع بالمربع الأمني التابع لنظام الأسد، حيث تمتهن شبكة من الموظفين هذا الموضوع، بإشراف كبار الضباط، وعلى الرغم من أن أجهزة الأمن التابعة للنظام تعتقل هؤلاء الموظفين، فإنها تطلق سراحهم بعد ذلك بمدة، لكونهم يعملون ضمن شبكة واحدة. ولا يتعلق موضوع التزوير بالبطاقات الشخصية فقط، بل يتخطاه إلى دفاتر العائلة وجوازات السفر وشهادات القيادة والثبوتيات الأخرى، إضافة إلى أن استصدار الثبوتيات لعناصر غير سوريين من ميليشيا (PKK) أمر واقع يحدث، إذ إن عناصر تلك الميليشيا تلجأ إلى هذه الأساليب[7].

تكرّس عمليات تزوير الوثائق الرسمية والبطاقات الشخصية أحد أهداف “الإدارة الذاتية”، من وراء عملية الإحصاء السكاني، كونه يتعلق بالانتخابات التي تعمل الإدارة على إعداد قانون خاص بها، وتشكيل مفوضية عليا لها. ومن جانب آخر، تعكس تلك العمليات عمق الصراع السياسي بين تيارين أساسيين داخل حزب الاتحاد الديمقراطي و(قسد)، أحدهما براغماتي قائم على التقبّل، ويقوده “مظلوم عبدي”، يتبنى بموجبه خطاب المشاركة الذي يلتزم بالهوية الوطنية السورية، ويعتنق فكرة “الأخوّة بين الشعوب”، وهي طريقة فكرت بها الولايات المتحدة وطالبت بتنفيذها في بداية الأمر، وقد وافق السكان المحليون عليها. ويدرك هذا التيار المخاوف الأمنية لدى تركيا، ويرى أن ثمة طريقة للحد من مخاوفها، ولخفض التصعيد إلى أدنى مستوياته مع الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، وتتمثل هذه الطريقة بإعادة فرض استقلالية (قسد) وإبراز صبغتها المحلية، والاقتداء بنموذج كردستان العراق. في حين يرى أتباع نهج المقاومة أن مستقبلهم مع دمشق، ويرى ضرورة إقامة علاقة عمل مع نظام الأسد، من منطلق أيديولوجي جدًا، يعتمد أساسه المنطقي على أيديولوجية يسارية متشددة، إضافة إلى تشكيك كل من قيادة “حزب العمال” والجناح الموالي له داخل حزب الاتحاد الديمقراطي بالنيّات الأميركية، واتهامها بتنفيذها لخطة ضد هذا التنظيم خصوصًا، ومحاولتها إضعاف حزب العمال الكردستاني في العراق، وإضعاف تأثيره في شمال شرقي سورية. كما يتهمها بالنفاق، لكونها تتعامل مع (قسد) و”الإدارة الذاتية”، وتتجاهل “التأثير الكبير” للحزب؛ ودوره في المكاسب التي حققها حزب الاتحاد الديمقراطي و(قسد) في شمال شرقي سورية[8].

في الوقت الذي اعتبرت فيه المعارضة السورية أنّ عملية الإحصاء التي تنفّذها قوات (قسد)، وتنظيم حزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب، داخل سورية، تأتي لأغراض انفصالية في المناطق التي يسيطر عليها في الشرق السوري، وتهدف إلى تغيير التوزيع السكاني في المناطق ذات الغالبية العربية[9]، بدا واضحًا أن هناك انسجامًا بين الخطوة التي أقدمت عليها “الإدارة الذاتية” ونظام الأسد، الذي لم يعلّق على عملية الإحصاء، واكتفى بإعلان مدير المكتب المركزي للإحصاء التابع لحكومة النظام السوري، عدنان حميدان، أن عدد سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، وفقًا لإحصائية أجراها المكتب عام 2021[10]، يُقدّر بنحو 23 مليون نسمة، وذلك بهدف زيادة وزن الدولة، سياسيًا وأمنيًا، الأمر الذي يحرص عليه النظام السوري بشكل دائم[11]، وللضغط على تركيا التي تؤكد في كل مناسبة مخاوفها الأمنية التي تتعلق بإقامة كيان تابع لحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية مع سورية، وبكلّ الخطوات التي من شأنها تشريعه والمضيّ فيه.

ثالثًا: الأهداف غير المعلنة التي تقف خلف عملية الإحصاء السكاني

تعتبر “الإدارة الذاتية” أن هذا الإحصاء السكاني هو الإحصاء الرسمي الأول الذي تنفّذه، وأن ما سبقه من عمليات إحصاء كانت عشوائية غير دقيقة؛ حيث نفّذت عمليتي إحصاء سبقت عملية الإحصاء الحالي، كانت الأولى في نهاية العام 2019، واستمرت مدة شهر؛ والثانية انطلقت في “مجلس الرقة المدني”، منتصف 2021 وانتهت بنهاية العام نفسه[12]، من دون أن تعلن نتائج واضحة لعملها. وتروّج الإدارة باستمرار فكرة أنها بصدد إعداد قوائم إحصاء دقيقة، في كل القرى والبلدات التي تخضع لسيطرتها، بهدف تنفيذ انتخابات بعد إصدارها “للعقد الاجتماعي”، وإعداد قائمة بيانات سكانية شاملة وأرقام موثوقة عن التوزع السكاني، تُعِدُّ بموجبها الخطط الاستراتيجية للتنمية وتقديم الخدمات عبر توفر أرقام دقيقة، وتقديم الخدمات لمستحقيها بشكل عادل، وتقليل نسب الفساد.

كشف المضيّ في عملية الإحصاء الأهدافَ الحقيقية للإدارة الذاتية من وراء تلك العملية، الأمر الذي دفع السكان إلى عدم التجاوب مع الموظفين المكلفين بتنفيذ العملية، والتهرّب من التعاون الجدّي معهم، بعدما ظهرت أهدافهم التي تتعلق بالتلاعب بالسجلّات الإحصائية لصالح حاضنتها الشعبية، ولتحقيق غايات تتمثل بما يلي:

1 – تحصيل الضرائب لرفد خزينتها، حيث أحدثت الإدارة الذاتية، منذ عامين تقريبًا، مؤسسة المالية التي تعود تبعيتها بشكل مباشر لها، وأقرّت في نظام عملها ضريبة مالية على كل شخص مقيم في مناطق سيطرتها، باستثناء المرأة، نظرًا لمكانتها وأهميتها، في قوانينهم، ولا يمكن القيام بأي معاملة في المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية من دون مراجعة مؤسسة المالية، والحصول منها على براءة ذمة مالية، لذلك شمل الإحصاء “عدد أفراد الأسرة، عدد الذكور، عدد الإناث، السيارات المملوكة ونوعها، العقارات سواء أكانت أراضي أو محلات تجارية، طبيعة عمل أفراد الأسرة، العربات التي تجول في الشوارع أو في الأسواق لبيع الخضار وغيرها من المواد”[13].

2 – إحداث التغيير الديموغرافي في مجتمعات المنطقة السورية التي تقيم في مناطق “الإدارة الذاتية”، من خلال عملية “الإسكان” التي قامت بها، وهي أن أغلب مهجّري مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، والعديد من القرى الكردية، هاجروا نحو محافظة الرقة، وعملت الإدارة الذاتية في وقت سابق على فتح مراكز لتوطينهم، ومنحتهم امتيازات مختلفة عن المكونات الأخرى، بهدف تحقيق توازن سكاني بين العرب والكرد في الجزيرة السورية. ولا تُعامل الإدارة سكانَ عفرين وعين العرب ومناطق أخرى في ريف حلب، على أنهم وافدون، ولا تطالبهم بأيّ وثائق، وهو ما يُعتبر ازدواجية في المعايير، وتمييزًا واضحًا، في حين أنها قامت بإصدار ما يسمى “بطاقة وافد”، لتسجيل وتدقيق السكان المهجرين إلى المنطقة من غير الكرد.

3 – العمل على زيادة أعداد القرى الكردية، وأعداد أبناء المكوّن الكردي، على حساب المكونات الأخرى، لأغراض سياسية، بسبب تخوف الإدارة الذاتية وجناحها العسكري من تنفيذ تركيا لتهديداتها بشنّ عملية عسكرية ضد مناطق سيطرتها، واحتمال خسارتها من جديد لمدن وبلدات يشكل الكرد أغلبية سكانها (القامشلي، الدرباسية، عامودا)، كي تكون عندئذ “الإدارة الذاتية” جاهزة لإعادة عملية الإسكان من جديد، لهؤلاء المهجرين من تلك المناطق[14].

4 – ضبط أعداد المكلفين بالتجنيد الإجباري الذين دخلوا سنّ التكليف لخدمة “الدفاع الذاتي”، وباتت “الإدارة الذاتية” تعمل على ملاحقتهم وزجّهم في معسكراتها.

5 – معرفة المهاجرين من أبناء المنطقة، وحصر أملاكهم، وإخضاعها لقانون “حماية وإدارة أملاك الغائب” الصادر عن الإدارة الذاتية بتاريخ 5 آب/ أغسطس 2020، وتسخيره لمصلحتها من خلال مصادرة مزيد من الأملاك للعائلات التي أُجبرت على الهجرة من الجزيرة، وعلى وجه الخصوص العائلات الكردية، وناشطي المعارضة السورية الذين يعيشون في تركيا، إذ يُعدّ الإحصاء تمهيدًا وأرضية إدارية وقانونية تحقّق لها ريع أملاك الغائب، واستثمارها من دون التدقيق في عملية استغلالها من قبل القائمين عليها من اللجان المشكّلة. وترافق هذا الأمر مع قيام “الإدارة الذاتية” بدعم بعض الشخصيات الكردية ماليًّا، لشراء العقارات من منازل وأراض، وإغراء بعض شيوخ العشائر لتملّك العقارات، مستغلةً الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تعانيها نسبة كبيرة من السكان في المناطق العربية، والذين اضطروا إلى بيع عقاراتهم استعدادًا للهجرة[15].

رابعًا: توافق ميثاق الهيكلة مع الأهداف الرئيسة لعملية الإحصاء السكاني

أجرت “الإدارة الذاتية” في 29 كانون الأول/ ديسمبر، التعديل الأخير على وثيقة داخلية لم تنشرها، وهي بعنوان “ميثاق الهيكلة؛ وثيقة تفاهم”، ويمكن اعتبارها نظام عمل داخلي يحكم رؤى وآليات الترابط والتنسيق بين الإدارة الذاتية المركزية والإدارات الفرعية، ويحدد الصلاحيات والمهام للإدارات الفرعية والمدنية التابعة لها[16]. وتتألف الوثيقة من ديباجة وأربعة أقسام، عرضت الديباجة ظروف اللااستقرار والتهجير التي تشهدها المنطقة، والأهداف المرجوة من تشكيل “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، وإقرار “مجلس سوريا الديمقراطية” مرجعية سياسية لها.

وتضمنت الأقسام الأربعة التي تلي الديباجة تصوّرًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا “للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، يتعلق بالحقوق والواجبات الناظمة للعلاقة بين مؤسسات الإدارة وأفراد الشعوب والمجموعات الإثنية في المنطقة. وتقوم على مبدأ “التمثيل العادل” واعتماد الديمقراطية التوافقية، واعتبار “قوات سوريا الديمقراطية” هي “القوات المسلحة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”.

كما عرضت الوثيقة الهيكل التنظيمي للإدارة الذاتية، وصلاحيات البنى والهياكل المؤسساتية التي تتألف منها، وآليات اختيار أعضائها، واللافت للانتباه أنها احتفظت لنفسها (الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، بمرجعيتها السياسية “مجلس سورية الديمقراطية”، والعسكرية “قوات سوريا الديمقراطية”) بصلاحيات تشريعية حصرية، تتعلق بالشؤون الخارجية والدفاع والأمن العام والنفط، في وقت حددت فيه أن العلاقة بينها وبين الدولة السورية يتم تحديدها على جميع المستويات، وفق دستور سوري توافقي يقوم بناء على تسوية سياسية توافقية والاعتراف بموجبه بالإدارة الذاتية وبخصوصيتها وصلاحياتها، بما في ذلك حق التمثيل والتفاوض في المحافل الوطنية والإقليمية والدولية، بالتنسيق مع مرجعيتها السياسية “مجلس سوريا الديمقراطية”.

تتفق الوثيقة المذكورة مع العديد من الأهداف التي تسعى الإدارة الذاتية لتحقيقها، من وراء عملية الإحصاء السكاني، ويأتي على رأسها اعتماد الديمقراطية التوافقية في الحياة السياسية، وهي لا تستند إلى عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، بل تعتمد أساسًا على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار، من أعلى هرمه إلى أسفله، من دون الخضوع لسلطة الأغلبية[17]. الأمر الذي يفسر سعي الإدارة الذاتية، من خلال عملية الإحصاء السكاني، إلى إبراز الهوية الكردية، وخاصة في محافظة الحسكة التي تشكل القبائل العربية فيها نحو ثلاثة أرباع سكّان المنطقة، وإلى تكريس حضورها سياسيًا واجتماعيًا وقبل ذلك قوميًا[18]، لاعتماد التمثيل النسبي في مرحلة لاحقة.

خامسًا: العوامل المؤثرة سلبًا في عملية الإحصاء

عند غياب منظومة الدولة، تهيمن قوى الأمر الواقع على السلطة، وتدّعي قدرتها على إجراء إحصائيات بخلاف الواقع، ويكون الهدف منها سياسيًّا في العادة، وأهمّها ادعاء وجود عدد سكان أضخم بكثير من العدد الفعلي، وإجراء تعديلات على التركيبة الديموغرافية في المنطقة، بحيث تقلل عدد رافضيها، تمهيدًا لإجلائهم عن أملاكهم والاستيلاء عليها. ونظرا لاعتماد “الإدارة الذاتية” على الدعم الأميركي، فإنه من المهم لها تضخيم الأعداد في تلك المنطقة، لكسب الدعم الدولي الخاص، وإقناعه بمشروعها السياسي.

وفي الأحوال العادية والظروف الطبيعية لدولةٍ قائمة ذات مؤسسات متخصصة قادرة على إجراء إحصاءات رسمية ولديها كادر ضخم من الموظفين المؤهلين، ترافق عملية الإحصاء ثغرات إحصائية، وأهم هذه الثغرات اثنتان هما: التهرّب، (ومثاله إخفاء بعض العائلات أسماء أبنائها وتسجيل ولد وحيد لديها، خوفًا من ملاحقته لتأدية واجب الدفاع الذاتي) والتوجّه الإحصائي، (ومثاله فرز المجتمع بين وافد ومقيم). وفي حالة الإدارة الذاتية، فهي تسيطر على منطقة لا يوجد فيها دولة، ولا مؤسسات حقيقية، ولا تملك سلطة الإلزام وليس لديها جهاز رقابي مقبول ولا طاقم مؤهل للقيام بإحصاء كهذا. وبالتالي؛ فإن أي إحصاء رسمي مقبول حاليًا يتطلب وجود دولة، ونظام إلكتروني قادر على التعامل مع متطلبات العملية، والمتغيرات المتوقعة، ومتخصصين في علوم الإحصاء قادرين على تحديد كيفية إجراء كل إحصاء تبعًا للهدف منه، وهو ما تفتقده الإدارة الذاتية[19].

وتحمل عملية الإحصاء من جانب آخر رسائل عدة، تخدم مشروع “العقد الاجتماعي” الذي يهدف إلى تعزيز التمثيل النسبي بين المكونات، خاصة أن الإدارة الذاتية عملت على الاستئثار بصوت الأقليات في مواجهة العرب، مثل “الأيزيديين، السريان، الأرمن، التركمان، الشركس”، من خلال تعبئتهم وتجيشهم ضد العرب في المنطقة، وبث خطاب الكراهية ضدهم، وتكوين صورة نمطية عنهم، بأنهم المكون الذي ينتمي إليه تنظيم (داعش)، وتذكيرهم بالمذابح الذي ارتكبها “تنظيم داعش” ضد الأيزيديين، وكذلك التذكير بمذبحة الأرمن، لاستعدائهم ضد الإسلام والعروبة، والترويج أيضًا لوصف العرب السنّة من أهالي الرقة ودير الزور وجنوب الحسكة، بأنهم مجتمعات “حاضنة للدواعش”.

كل ذلك يُضاف إلى أن نهج الإحصاء المقرر يعمل على تقسيم المجتمع بين مقيم ووافد، وهو ما يُخرج كثيرًا من العرب من كونهم مواطنين شمال شرق سورية، في حين يُدخل الكرد ممن هاجروا من “عفرين ورأس العين وتل أبيض”، وغيرها من المناطق الجغرافية التي أصبحت تحت سيطرة تركيا. وبذلك تتشابه عملية الإحصاء الحالية مع الإحصاء الاستثنائي الذي أجرته الحكومة السورية إبّان مرحلة الانفصال، في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1962، وتعتبر نسخة مصغرة مظلمة عنه، وما نجم عنه من تهميش وإقصاء وتمييز بين المكونات.

أما أبرز دلائل توجهات “الإدارة الذاتية” نحو تقسيم المجتمع والتمييز بين مكوناته، فيبرز في قرارها إجبار كل عربي، قيده المدني من خارج مناطق سيطرتها، على استخراج “بطاقة وافد”، عن طريق وجود كفيل له من أبناء المنطقة، واعتباره نازحًا في السجلات العامة والإحصاء، وهو ما لا تطلبه من النازح الكردي من عفرين أو عين العرب، وهذا الإجراء التمييزي يعكس توجهات “الإدارة الذاتية” المتناقضة مع أهداف الثورة السورية بالمساواة والمواطنة، ويعاكس كذلك توجهات الثورة الوطنية بالحفاظ على وحدة سورية، أرضًا وشعبًا.

ويؤثر في عملية الإحصاء ما تعانيه المنطقة من عدم استقرار، ومن تلويح دائم بعمليات عسكرية قريبة، وما ينجم عنها من هجرة داخلية أو خارجية باتجاه دول الجوار، ومنها إلى أوروبا. والاصطفافات السياسية بين أبناء المنطقة تحول دون قدرة الإدارة الذاتية والفرق التي عملت على تشكيلها، على تنفيذ عملية الإحصاء في مدينة دير الزور والمناطق التابعة لها، بسبب الفلتان الأمني والسياسة التمييزية ضد السكان المحليين من أبناء المدينة.

خلاصة:

تسعى “الإدارة الذاتية”، من خلال إجراء عملية الإحصاء السكاني، لفرض أمر واقع على كلّ الأطراف، ولترجيح كفة التيار الداخلي في صفوفها “الموالي للنظام السوري”، والذي يتفق معه في تشكيل “المجتمع المتجانس”، خاصة أن النظام السوري لم يُصدر أي إدانة أو تعليق حول ما أقدمت عليه الإدارة الذاتية، وهو ما يدل على رضى وقبول منه هو الآخر، بدوافع سياسية يهدف من ورائها إلى الضغط بأقصى حد ممكن على تركيا والتأثير في قراراتها، والتقدّم خطوة إلى الأمام، كما تهدف “الإدارة الذاتية” من الإحصاء إلى تحقيق عدة أهداف، منها مواجهة الضغط الأميركي عليها، الهادف إلى إشراك الأحزاب الكردية الأخرى والعشائر العربية، فضلًا عن رغبتها في ضبط حالات الفساد التي تتعلق بالإحصاءات التي كانت تنفذها المجالس المحلية، والقدرة على زيادة أعداد السكان بما يضمن لها تحقيق مصالح متنوعة، تعزز موقف المتنفذين فيها، من خلال تقديم أعداد وهمية تتعلق بمسائل الإغاثة والخدمات.

*للاطلاع على الملف المرفق (ميثاق الهيكلة؛ وثيقة تفاهم) من خلال الضغط على علامة التحميل


[1] (ز. ن) صحفي سوري مقيم في مناطق الإدارة الذاتية (مقابلة من قبل الباحث 8/6/2022)

[2] “الإدارة الذاتية” شرق الفرات تجري إحصاءً سكانياً سبقته حملات على مواقع التواصل – كمال شيخو – صحيفة الشرق الأوسط – https://bit.ly/3PC8hb0

[3] رووداو – العقد الاجتماعي الجديد للإدارة الذاتية.. دستور من طرف واحد أم بداية مشروعية؟ – محمد عاصم https://bit.ly/3zdsnRX

[4] الإدارة الذاتية للجزيرة تُباشر بالإحصاء السكاني – المجلس التنفيذي لشمال وشرق سوريا – https://bit.ly/3zE2mN7

[5] إنشاء نظام داخلي موحد لمكاتب التخطيط والإحصاء في الإدارات الذاتية – Ronahi – https://ronahi.net/?p=143445

[6] أعمال مكتب التخطيط والتنمية والإحصاء خلال الشِّق الأول من العام الجاري – الإدارة الذاتية reveberi enisa – https://bit.ly/3cMFxxA

[7] بإشراف ضباط كبار.. موظّفو ميليشيا أسد يمنحون الهوية السورية لعناصر PKK- زين العابدين العكيدي – أورينت – https://orient-news.net/ar/news_show/197532

[8] دراسة: علاقة قسد بحزب العمال الكردستاني على مفترق طرق – صادرة عن معهد الجامعة الأوربية – ترجمة: ربى خدام الجامع – موقع تلفزيون سوريا https://bit.ly/3OFjyGi

[9] المعارضة السورية ترفض إجراء “بي كا كا” الإرهابي تعدادا سكانيا – وكالة الأناضول للأنباء https://bit.ly/3PN9wo4

[10] النظام السوري يقدّر عدد السكان بـ23 مليون نسمة – عنب بلدي – https://www.enabbaladi.net/archives/577982

[11] لماذا “يبحبح” النظام عدد السوريين؟ – خالد تركاوي – نداء بوست https://nedaa-post.com/?p=34514

[12] (ر. ح) – موظف في الإدارة الذاتية (مقابلة من قبل الباحث بتاريخ 7 حزيران 2022م)

[13] أحد موظفي الإدارة الذاتية الذي فضل عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية (مقابلة من قبل الباحث بتاريخ 31 /5/2022م)

[14] عمر خطاب – ناشط صحفي مقيم في مدينة البصيرة في دير الزور (مقابلة من قبل الباحث بتاريخ 10 /6/ 2022م)

[15] الإحصاء السكّاني في الحسكة: خطوة على طريق “التكريد” – موقع صحيفة الأخبار – أيهم مرعي – https://al-akhbar.com/Syria/336496

[16] حصل الكاتب على الوثيقة وستكون مرفقة في الملحقات من أحد موظفي الإدارة الذاتية الذي فضل عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.

[17] المؤلف آرنت ليبهارت – ترجمة حسني زينة- كتاب الديمقراطية التوافقية pdf

[18] الإحصاء السكّاني في الحسكة: خطوة على طريق “التكريد” – موقع صحيفة الأخبار – أيهم مرعي – https://al-akhbar.com/Syria/336496

[19] حسام نجار. مدرب نطق – مدير إحصاء سابق – مستشار في العلاقات الدولية معتمد لدى الأمم المتحدة (مقابلة من قبل الباحث بتاريخ 10/6/2022م).

“مركز حرمون للدراسات المعاصرة”
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2024
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist