
ممّا لا شكّ فيه، أن ما حدث في السويداء مؤخّراً له دلالات عديدة، أقلّ ما يقال عنها أنها أشّرت إلى مجموعة أمور لا يمكن القفز عنها، لا في المحافظة المضطربة منذ بداية الثورة السورية أواسط آذار 2011، وصولاً إلى الهبة الشعبية الأخيرة بوجه المارق راجي فلحوط، والقضاء على عصابته المرتبطة علناً بأجهزة النظام، وعلى رأسها فرع الأمن العسكري الذي يُعدّ الموجّه الأساسي لما كانت تقوم به من أعمال خطف وقتل وترهيب، وتجارة وتصنيع المخدرات، ودوس لكرامات الناس من خارج وداخل المحافظة، مما ألهب حمية الناس بشكل لا يمكن التراجع عنه، وأدى إلى أخذ القرار باجتثاث تلك العصابة، وتدمير مقراتها بالرغم من فرار زعيمها الذي يمكن التكهن بمكان وجوده ببساطة مع مسيرته القذرة خلال السنوات الماضية، وارتباطه المكشوف بالأجهزة الأمنية التي كانت ترعاه وتؤازره وتسهل له كل أعماله. وبعيداً عن التحليلات والتكهنات، وبعرض سريع لما كانت تقوم به عصابة راجي على امتداد المحافظة، فمنذ أكثر من عام، قامت تلك العصابة باختطاف أحد شبان القرية التي يقيم فيها راجي، ويدير أعماله من منزله الذي حوّله إلى مقر عمليات عسكري، وبؤرة لتصنيع أخطر أنواع المخدرات، وسجن لاحتجاز المخطوفين الذين كانوا مصدر دخل آخر له ولعصابته ومشغّليه، وبعد أن قام بتعذيب الشاب المذكور واسمه مجد سريوي، وقام بتصويره وبثّ فيديوهات التعذيب التي مارسها عليه، ثم قام بقتله بدم بارد، وألقى جثته في الشارع العام أمام المشفى الوطني بالسويداء، ولم يكتفِ بذلك، بل قام بمضايقة أهل القتيل وإجبارهم على الرحيل من البلدة، حتى وافقوا مرغمين على الصلح معه تحت التهديد بتصفية باقي أفراد العائلة، هذه الحادثة لم تكن هي الأولى، وبالتأكيد لم تكن الأخيرة، توسّع راجي وعصابته في أعمالهم الإجرامية، وبدعم كامل من الأجهزة الأمنية وحزب الله اللبناني الموجه من إيران، ليقوم بتشكيل ميليشيا مسلحة من شبان المنطقة، وبعض العناصر المكلفين من قبل الأمن العسكري وحزب الله بمؤازرة عصابته والعمل معه في كل المهمات التي يتم تكليفه بها، من تصفية لباقي المنافسين في تجارة وتصنيع المخدرات، والقيام بالوكالة عن الفروع الأمنية بنصب الحواجز على الطرقات الرئيسية بالمحافظة، والتدقيق بهويات المواطنين، وخطف الكثير منهم بغية أخذ فديات عالية كان ذوي المخطوفين يضطرون لدفعها لهم حفاظاً على أرواح أبنائهم. ومنذ شهرين تقريباً، تم تكليف راجي ومجموعته بمؤازرة عناصر من الأمن وحزب الله بالهجوم على ما يُعرف ” بقوة مكافحة الإرهاب “المشبوهة أيضاً”، والتي كانت متمركزة في قرية ” خازمة” بالقرب من الحدود الأردنية، وأدى الهجوم إلى قتل العديد من عناصر تلك المجموعة وعلى رأسهم متزعم هذه المجموعة المدعو سامر الحكيم . لم ينته الأمر هنا، فبعد تلك الحادثة قام راجي بتوسيع نشاطه، وخطف مجموعة شبان من آل الطويل من كبرى عائلات مدينة شهبا الواقعة على بعد 20 كيلو متراً شمال مدينة السويداء، مما دفع أقارب المخطوفين والكثير من شبان المحافظة إلى حسم الأمر واجتثاث هذه المجموعة بشكل نهائي، وكان ملفتاً للنظر هذه المرة تدخل المرجعية الدينية الأولى في السويداء ممثلة بشيخ عقل الطائفة حكمت الهجري، برفع الغطاء عن هذه المجموعة، وإصدار بيان واضح يدعو فيه إلى القضاء عليها. وفي نهاية الأمر، تمت محاصرة مقرات المجموعة في قريتي سليم وعتيل من قبل أقارب المخطوفين وشبان المحافظة وحركة رجال الكرامة، وتم اقتحام المقرين وإحراقهما، وأسفرت المواجهة بين الطرفين عن قتل خمسة من المهاجمين، وقتل وأسر العديد من أفراد هذه المجموعة، قبل أن يلوذ من تبقى منهم بالفرار. إن ما حدث مؤخراً في السويداء كشف الكثير من الحقائق، والتي كانت وما زالت مثار تساؤلات عديدة وموضع خلاف واختلاف، ويمكن اختصار هذه الحقائق بما يلي:
1: عجز النظام عبر السنوات الماضية أن يدجن المحافظة، ويجعلها تخضع له بالكامل، وظهر هذا جلياً في امتناع شبانها عن أداء الخدمة الإجبارية في صفوفه، محميين بتوافق ضمني أعلن عنه قائد حركة رجال الكرامة المغدور “وحيد البلعوس” منذ بدايات الثورة، كما أنه لم يستطع فكّ الارتباط بين السهل والجبل، أو بين مكونات المحافظة من “دروز وبدو”، مما دفعه إلى استخدام حثالات مجتمع السويداء بالوكالة عنه للقيام بأعماله القذرة هناك، ودعمهم بالمال وبالسلاح، وأعطاهم صلاحيات القوى الأمنية التي كان من المفروض أن تكون مسؤولة عن أمن وأمان المواطنين، مما خلق حالة غريبة عن مجتمع السويداء وعادات أهله العريقة وتقاليدهم المتوارثة عبر الأجيال.
2: عطفاً على ما سبق، إن السويداء هي جزء أساسي من تركيبة المجتمع السوري، ولكن النظام بحجة حماية الأقليات، حاول فك ارتباطها مع باقي مكونات المجتمع السوري بكل الوسائل والدسائس، وعندما عجز عن ذلك لم يبق أمامه إلا العمل على تفتيت النسيج الاجتماعي للمحافظة، ونشر المخدرات، وإشاعة جو من الرعب وعدم الطمأنينة، بسبب حوادث الخطف والنهب والاعتداءات المتكررة على حيوات الناس وأرزاقهم بدون أي وازع أخلاقي، الأمر الذي دفع الناس بالمحافظة إلى الخروج وشق عصا الطاعة، وفلسفة النأي بالنفس التي اتخذتها معظم أطياف المحافظة منذ اندلاع الثورة 2011، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تفعلها المحافظة، ولا أعتقد بأنها ستكون الأخيرة، فلم تزل الأجهزة الأمنية ووكلاء إيران في المنطقة وأتباعهم من ضعاف النفوس يتمتعون بالكثير من الامتيازات والدعم والحماية.
3: أثبتت محافظة السويداء عبر العديد من الاستحقاقات التي مرت بها والأزمات التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية، أنها لا تقبل الضيم ولا الإذلال من أي جهة كانت، مهما ارتفعت تكاليف المواجهة، ولا ننسى الهجوم الذي تعرضت له في 25/7/2018، وكيف استطاع أهاليها أن يوقفوا هجوم داعش، ويعلقوا مشانقهم في ساحات المدينة بدون أي مساعدة من أجهزة النظام التي اتّخذت في حينها وضع المزهرية، والذي قام بدور المسهل والميسر لهجوم داعش على القرى الآمنة في الريف الشرقي، بعد أن نقلهم من مخيم اليرموك إلى بادية السويداء بباصات مكيفة وبكامل عتادهم الحربي.
4: مما لا شك فيه أن مجتمع السويداء ليس مجتمعاً واحداً، أو مجتمعاً متجانساً بالكامل، وعمل النظام منذ أوائل سبعينات القرن الماضي على تفتيت البنى الاجتماعية بكل الطرق، كما فعل في باقي المحافظات السورية، مما أفسح المجال لظهور طبقة من الفاسدين والمنتفعين وكتبة التقارير، ودس العديد من المخبرين، بالإضافة إلى الإهمال المتعمد لقيام أي مشاريع تنموية، أو خلق فرص عمل لأهل المحافظة الذين اتجهوا إمّا للهجرة إلى دول الخليج والجوار وغيرها، وإمّا لفتات الوظائف التي كانت مصدراً للرشوة والتربح غير المشروع بالغالب، الأمر الذي ساهم كثيراً في أخذ معظم أطياف السويداء موقف الحياد الإيجابي في أحداث الثورة خلال الفترة المنصرمة. فبالإضافة إلى امتناع شبان المحافظة من الذهاب للخدمة في صفوف الجيش الذي كان يقمع الاحتجاجات المحقة لأبناء البلد الواحد، استقبلت السويداء مئات الألوف من النازحين من بطش النظام وأكرمت وفادتهم.
5: إن الغياب التام للدولة وانهيار النظام القضائي والأمني، وتفشي البطالة وانسداد الأفق وحشر الناس ضمن حدود المحافظة وملاحقة أبنائها بمجرد خروجهم من حدودها، هذه الأمور دفعت الناس إلى اتخاذ وسائل حماية بديلة، فتشكلت العديد من المجموعات التي تحمل السلاح، على رأسها حركة رجال الكرامة التي أسسها الشيخ وحيد البلعوس في العام 2013، وكان أول مطالبها ألّا تقوم الدولة بسحب أي شاب يرفض الخدمة الإلزامية، مما حدا بالأجهزة الأمنية إلى تصفية قائدها في 4/9/2015، مما أجج حالة الغليان الشعبي في السويداء، وأدى إلى إسقاط تماثيل الأسد التي كانت منتشرة في أرجاء المحافظة، كما قام المحتجون بطرد كل الأجهزة المتواجدة هناك، ليعودوا بعدها من بوابة الحفاظ على الأمن المنفلت، ويمارسوا نفس الممارسات التي أدت بالناس إلى طردهم من المحافظة، ولكن هذه المرة بأدوات وأشخاص من أبناء المحافظة أنفسهم، وكان أبرزهم المدعو راجي فلحوط وعصابته التي فُكّكت مؤخّراً.
أخيراً: إن الحراك الذي بدأ في منتصف آذار العام 2011 مطالباً بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والذي عُبّر عنه في كافة أنحاء سورية بأشكال مختلفة، لم تكن السويداء بمنأى عنه أبداً، ولكنه اتخذ فيها شكلاً مغايراً، كما أسلفنا، ولأن النظام عمل جاهداً، وما زال، على تفتيت اللحمة الوطنية بين كافة مكونات الشعب السوري، فلا بد من الانتباه والحذر لكل ما يحدث في أي بقعة من بقاع سورية، ومن ضمنها السويداء، ولن يتوقف هذا النظام عن فعل أي شيء للوصول إلى غايته فيها، والعمل على تدميرها وكسر شوكتها، كما فعل بباقي المناطق التي ما زالت تخضع لسلطته ولو بشكل رمزي.
كاتب سوري