أصبح للفلسفة يومها العالَمي! فمنذ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، جعلت اليونيسكو من كل ثالث يوم خميس، من شهر نوفمبر، يوماً عالمياً للفلسفة. احتفاء بها وبالفاعلين فيها، سواء تعلق الأمر بالفلاسفة أم بشُرَّاحِهم، أكانوا أمواتاً أم أحياء، وإنْ كان هذا الاحتفاء بطبعه طقوسياً، أيْ أنه يكرس الدوكسا أكثر من كونه يقاومها، ولو كان ذلك الاحتفاء يجري باسم فعالية معرفية مُعادية للدوكسا ومفعولاتها. كيفما كانت طبيعتها، أكانت أفكاراً جاهزة، أو أحكاماً مسبقة، أو بعبارة دقيقة: بلاهة bêtise.
لكن السؤال هو: ما المصلحة وراء إقامة يوم عالمي للفلسفة وترسيمه على مستوى المعمورة؟ وهل يعود ذلك على الحقل الفلسفي بالنفع أم بالضرر؟ ثم هل يخدم الفعالية الفلسفية للفلاسفة، أم أنه يغذي أعداءها في العمق الذين يتكلمون عادة باسمها ويُنافحون عنها؟
لنعلنها حرباً ضروساً ضد البلاهة
صار للفلسفة يوماً عالمياً، ويا له من يوم! لقد تحولت الفلسفة إلى فعل طقوسي يكرس مفهوماً غير فلسفي للزمن: مفهوم أسطوري. أوليس لهذه المناسبة اقتصادها السياسي؟ بلى. إنها اقتصاد سياسي على مستوى الزمن. كثيرة هي الأيام العالَمية في هذا الزمن، وهي آخذة في التوالد والتناسل إلى درجة تختزل فيها الزمن في الزمن الدائري، ليتحول بدوره بفعل إضفاء الطابع الاحتفالي عليه، إلى عملية لأسْطرة الزمن بشكل دوري ودائري، فتغدو بموجبه الأشياء موضوع الأيام العالمية السنوية تلك، مَوْضع أسْطرة شاملة للحياة اليومية: اقتصاد سياسي على مستوى الأسطورة. تلك الأسطورة التي لم تعد توجد خارج المنطق الفلسفي، بقدر ما غدت تسكن في قلبه وتستوطن دروبه وتعمر دياره. ألا تحتاج الأيام العالمية إلى يوم عالمي: يوم عالمي للأيام العالَمية؟ هلموا أيها الفلاسفة: لنحتفل باليوم العالمي للأيام العالَمية!
هل تحتاج الفلسفة ليوم عالمي؟ أم أن عالَم اليوم بوصفه عالماً للمعاصرة، هو الذي يحتاج إلى الفلسفة؟ في حاجة إلى أي فلسفة؟ قد تكون فلسفة للأيام العالمية: بلاهة العصر، أوليست الفلسفة في نهاية التحليل هي مقاومة للبلاهة؟ إنه احتفاء بالفلسفة، لكنه ضد فيها وفي فعاليتها، لا من أجلها أو من أجل خدمتها، بما هي فعالية معرفية مُقاوِمَة. ليس بخلق المفاهيم وإبداعها حسب، وإنما من خلال مقاومة المفاهيم السائدة أيضاً، خاصة عندما يتعلق الأمر بمفاهيم متخشبة للزمن. إذ تعمل على إعادة تدوير الزمان التاريخي وقولبته داخل قالب من الزمن الطقوسي. فتُحول الزمن بموجب ذلك، وكل ما ينضوي تحته، كما هو شأن الفلسفة ها هنا، إلى طقس تأبيني للمعرفة الفلسفية في حد ذاتها، خاصة عندما يتم تصريف فعل التفلسف وفقاً لأزمنة طقوسية أكثر منها أزمنة فلسفية، ما يحول إلى تكريس نوع من البلاهة على مستوى الفكر والفعل معاً، لدى الفيلسوف وغير الفيلسوف، من عامة الناس أو من خاصتهم.
اليوم العالمي للفلسفة: إنه تكريس للتراثوية لكيلا أقول التراث، أما الفيلوصوفيا فهي تقويض وتفجير لها، فإذا كانت التراثوية، كيفما كانت طبيعتها ودرجة تأبيدها للتقليد وقتلها للتراث أو تحنيطه، تعمل على تحويل التراث إلى تقليد، فإن الفيلوصوفيا تحرص على تحرير التراث من التقليد وتعيد تعريفه على نحو آخر، باعتبارها فكراً آخر Pensée- autre. ليغدو التراث، ليس أصالة مفقودة، أو عودة أبدية، أو إرثاً مقدساً للأسلاف الموتى وآثارهم، بل ما سنورثه لأحفادنا وأسلافنا أيضاً، أو ما لم نورثه لهم بعد. إنها تعلمنا كيف نخلق أنفسنا ونعيد خلق أسلافنا من جديد. ومن ثم التحرر من لعنة الأجداد، حيث تُساهم الأيام العالمية في تكريسها وبعثها فينا من جديد، تلك اللعنة، التي تمثل في استدعاء الموتى من قبورهم وتقليب ما بقي عالقاً في مواضيعهم. ليست الفلسفة طقسا تأبينيا يرمي إلى نظم أنشودة الفيلسوف الأول والأخير، الواحد الأحد، هي ليست تراثاً عالمياً، بالمعنى الذي يتحول فيه هذا التراث إلى فولكلور أو منتوج سياحي يتلذذ به السياح أو الجمهور، إنه سعي إلى إضفاء السمة الفولكلورية على ما ليس بفولكلور.
إن الزمن الفلسفي شيء والزمن الطقوسي شيء آخر. فالزمان الفلسفي هو زمان الأسئلة المفتوحة: زمان انسيابي ومتدفق. أما الزمن الطقوسي فهو زمن دوري: زمن أسطوري مُغلق، يستدعي الماضي ويخلده.
كيف يتم التعامل مع هذا اليوم؟ للتعامل مع هذا السؤال، ربما ينبغي علينا ممارسة نوع من الإثنوغرافية المستعجلة، إثنوغرافية الأيام العالَمية، كما هو شأن إثنوغرافية اليوم العالَمي للفلسفة. عادة ما يتم تصريف هذا اليوم إلى ندوات ولقاءات وأنشطة يعتبرها أصحابها ثقافية، في مختلف المدرجات في الكليات والمؤسسات الجامعية، في الصالونات والنوادي الثقافية والمكتبات والمقاهي، في مختلف المجالات العمومية منها والخاصة، الواقعية والافتراضية، بين أساتذة وباحثين وطلبة من المجال المعرفي المعني، أو في لقاءات مفتوحة أمام جمهور واسع من المهتمين وغير المهتمين. لقاءات تأبينية: تشهد نوعاً من التداول لبعض الأعلام الفلسفية والأسماء، هنا أو هناك، حسب هذا البلد أو ذاك، إعلاءً من شأن بعضها وتنقيصاً من شأن أخرى، وتقديساً لبعض النصوص على حساب تدنيس أخرى، إذ لا تتجاوز الخوض في ما قيل من قبل، أيْ التطرق إلى ما أُعمل فيه الفكر من قبل وفُعل: الإشكالات والطروحات الجاهزة، وكأن المفكرين والفلاسفة تناسوا إعمال فكرهم وتفعيله لخدمة الحياة العصرية ومجرياتها، بالأحرى الرفع من شدة تفكيرهم وتكثيفه ما أمكن حتى يتسنى لهم التسلح بالأسلحة المعرفية الضرورية، لتشخيص أمراض العصر ومواجهة المخاطر الحالية التي يواجها البشر اليَوم بما يكفي من الفعالية.
إن الزمن الفلسفي شيء والزمن الطقوسي شيء آخر. فالزمان الفلسفي هو زمان الأسئلة المفتوحة: زمان انسيابي ومتدفق. أما الزمن الطقوسي فهو زمن دوري: زمن أسطوري مُغلق، يستدعي الماضي ويخلده. بما في ذلك ماضي الفلسفة عينها. إن الفلسفة لا تحتاج ليوم عالمي لتكون عالَمية، وإنما عالَم اليَوم: عالَم المُعاصرة هو الذي يحتاج إلى الفلسفة. في حاجة لأي فلسفة؟ هذا هو السؤال. لعل الميتافيزيقا بمعناها اليوناني القديم، أيْ كعلم بالموجود بما هو موجود، لا تملك ما يكفي من الأسلحة القادرة على تشخيص الحياة المعاصرة في اختلافها. فالميتافيزيقا في نهاية التشخيص، لا يُمكنها أنْ تُقْلِقَ الميتافيزيقا.. وحدها الأنطولوجيا، قادرة على ذلك.
عن أي أنطولوجيا نتحدث؟ إننا نتحدث عن أنطولوجيا مَرحة، بوصفها علماً مرحاً بالوجود بما هو موجود: أي الميتافيزيقا لما غدت علماً مرحاً. وهل ما زالت ميتافيزيقا بعد الآن؟ ذلك أن المرح كسخرية هو في الأساس، ضد امتلاء الميتافيزيقي ووحدتها التامة، إنه بمثابة سلاح حاد وفتاك لكل ما من شأنه أنْ يقدم نفسه كقول أول وأخير. أيْ كهوية منطبقة مع ذاتها مطابقة تامة.
على هذا النحو نتحدث عن ضرورة المَرَح أو السخرية في ما سميناه هنا بالأنطولوجيا المَرحة، بُغية الكشف عن البلاهة ومفارقاتها. وهل هناك ما هو أكثر بلاهة، أو مفارقة، من أن نجعل للفلسفة يوماً عالمياً؟ لقد نبهنا دولوز مراراً إلى خطورة البلاهة، باعتبارها مصدراً لأعلى سلطة للفكر. كما نبهنا إلى ذلك قبله العالِم المرح: فلنعلنها حرباً ضروساً ضد البلاهة Nuire à la bêtise.
كاتب مغربي
“القدس العربي”