في الرابعة من فجر الجمعة الموافق فيه 11 تشرين الثاني / نوفمبر، لمح أحد الحراس شبحاً يتحرك في مبنى الضريح، فصرخ قف، لكن الشبح اختفى كأن الأرض ابتلعته. بلّغ الحارس زملاءه الذين أبدوا استغرابهم للأمر، ومازحوا زميلهم بأنه مصاب بحمّى «عودة عرفات»، وهي لوثة بدأت تنتشر في الضفة الغربية بعد استشهاد إبراهيم النابلسي، أحد قادة «عرين الأسود». ففي مأتم إبراهيم صرخت امرأة باسم «الختيار»، وهي تمد يدها، محاولة أن تجد طريقها وسط الزحام من أجل معانقة أبو عمار الذي قالت إنها رأته بعينَي رأسها في الجنازة.
بعد المأتم سرت شائعة في حارة الياسمينة في نابلس، بأن «أبو عمار» شوهد في صباح اليوم التالي خارجاً من مسجد النصر، بعد تأدية صلاة الفجر. هذه الخراريف عن عودة الزعيم الشهيد إلى الحياة ليست جديدة، لكنها صارت على كل شفة ولسان في الآونة الأخيرة. ويقال، والله أعلم، إن أوساطاً مقربة من الفدائيين الجدد هي مَن تبث هذه الشائعات، بهدف البلبلة والتشويش وإثارة الرأي العام ونشر الخوف في أوصال السلطة.
غير أن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن ثلاث شاحنات من الأسمنت المسلح جيء بها في إحدى الليالي من شركة الطريفي، وسُكبت على القبر لمنع سرقته، أو لتضليل التحقيق مثلما يشاع. غير أنني أعتقد أن السبب الخفي لهذا الإجراء، كان وضع حد نهائي للأقاويل التي انتشرت على لسان مجموعة لا تُحصى من الشهود، بأنهم رأوا أبو عمار في نابلس وجنين وطولكرم وبيت لحم وغزة ويافا، ووصلت الأمور إلى حد التأكيد أن الرجل شوهد في الشيخ جرّاح في القدس.
إجراءات لوضع حد نهائي للأقاويل التي انتشرت عن رؤية أبو عمار في نابلس وجنين وطولكرم وبيت لحم وغزة ويافا… وفي الشيخ جرّاح
الحارس الذي رأى الشبح خارجاً من القبر، أُرسل إلى أحد المقار الأمنية للتحقيق معه، وأُسدل ستار كثيف من الكتمان على مشهد الرابعة من فجر يوم الجمعة. في ذلك الصباح كانت العتمة تلفّ المكان، وحين خرج الشبح من القبر، كان ينفض عنه آثار الباطون العالقة في ثيابه، ويسعى لتنشق الهواء كي يتخلص من عفونة رائحة الأسمنت التي التصقت بأنفه.
وقف الرجل أمام بحرة الماء التي تحيط بضريحه، حائراً في العتمة، وحين اكتشف أن شعاع الليزر الأخضر الذي كان ينطلق من منارة الجامع مشيراً إلى القدس انطفأ، غضب كثيراً، وأصابته موجة من الحزن. في تلك اللحظة سمع صوت الحارس يأمره بالوقوف، فتراجع إلى الخلف وقرر العودة إلى القبر، منتظراً لحظة ملائمة للخروج من عتمة الأسمنت.
في التاسعة من صباح الأحد الموافق فيه 19 تشرين الثاني / نوفمبر، قرر الرجل أن يخرج إلى الضوء. لم يلبس كوفيته الملوثة بالتراب والأسمنت، خرج عاري الرأس، ومشى بين الحراس ليجد نفسه وحيداً في الطريق.
يبدو أن الحراس لم يتعرفوا إليه، فاعتقدوا أنه أحد الرجال المسنّين الذين دأبوا على زيارة الضريح كي يبكوا على حياتهم التي ضاعت وسط غبار الأيام، فتركوه يمشي في حال سبيله.
التفت بحثاً عن الجدارية الحجرية التي نُقشت عليها كلمات محمود درويش: «كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة إلى فكرة الدولة، وفي كل واحد منا شيء منه»، فلم يجدها. «أزالوا ليزر القدس، وأزالوا كلام الشاعر، ثم صبّوا عليّ الباطون، ماذا يريدون؟» فكّر الرجل، لكنه لم يسأل الحراس ماذا جرى للجدارية الحجرية خوفاً من انكشاف أمره. خرج من المقاطعة تحت رذاذ رام الله، ومشى وحيداً، شعر بالغربة في شارع بيت لحم، كان يمشي من دون أن يلتفت إليه أحد، كأن الناس نسوه أو لم يعودوا يريدون أن يتعرفوا إليه، لكنه لا يبالي. لقد اكتفى الرجل من حلمه بنصفه، فهو لم ينجح في تأسيس دولة الفلسطينيين، لكنه نجح في أن يموت مثلما أحب: «شهيداً شهيداً شهيداً»، وبذلك لن يجد أعضاء مركزية فتح: أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، وسيلة للتباهي، فالرجل على الرغم من خطأ أوسلو كان مخلصاً للوعد والموعد، ومات بالسمّ لأن أعداءه لم يمتلكوا جرأة قتله بالرصاص. لكنه يستطيع أن يبرهن أن الرصاص الذي حصد الفدائيين الجدد، ترك علامات على جسده المسجى في القبر.
خرج من شارع بيت لحم ليجد نفسه في شارع القدس حيث رأى لافتة الحملة الشعبية لإطلاق سراح القائد مروان البرغوثي. وقف تحت اللوحة وقد فقد صبره، وبدأ يصرخ في وجوه المارة: «إزاي يعني؟ مروان لسّه في السجن؟ هذا هو العار!» تجمّع حوله عدد من المارة ما لبثوا أن تفرقوا حين رأوا دورية للأمن الفلسطيني. وصل إلى مفترق للطرق، فوجد إشارة زرقاء تدل على الاتجاهات، وأصيب بالهلع عندما لاحظ أن اتجاه السهم الذي يشير إلى مقر الرئاسة هو عكس السهم الذي يشير إلى القدس. لكنه لم يتردد لحظة، ومشى في اتجاه القدس.
تابع سيره فتراءى له مخيم الأمعري حيث تقيم أم ناصر أبو حميد. واصل السير إلى الجنوب، وقرب حاجز الخمارة التقى بالشهيد جهاد سمحان، فطلب منه مرافقته إلى القدس، لكن شهيد انتفاضة النفق قال له إن عليه أن يعود إلى المقبرة، لأنه خرج منها مستطلعاً الأوضاع في الخارج بتكليف من رفاقه الشهداء. وصل الرجل إلى حاجز قلنديا، برج وجدار. رأى صورته على الجدار، واكتشف أن عبور الحاجز من أجل الوصول إلى القدس بالغ الصعوبة. شعر بالجوع والعطش، فقرر الذهاب إلى مطعم مروان في حسبة رام الله، كي يأكل الحمص والفول.
وصل إلى المطعم، ورأى صورة أبو عمار في صدر الحائط. بدأ يلتهم الحمص الذي اشتاق إلى نكهته، ثم طلب كوباً من الماء، ونده النادل طالباً منه أن يجلب قرصَين من فلافل عبدو في الجوار. نظر إليه النادل متعجباً من لهجته: «إنت مصري، إيش جابك على هالبلاد؟». «أنا؟ إزاي؟» ورفع يده في اتجاه الصورة: «هذا أنا». قهقه النادل ضاحكاً: «إنت؟».
وقف الرجل وأشار بيده المرتجفة إلى الصورة، وقال إنه قادم من منزل أم ناصر أبو حميد، «هذه هي الأم الفلسطينية»، قال كأنه يخطب. تكلم عن الأسرى في سجون الاحتلال، «أم المؤبدات، هدموا بيتها خمس مرات، ابنها ناصر سبع مؤبدات، ونصر خمسة مؤبدات، ومحمد مؤبدين، وإسلام مؤبد. ناصر القائد في كتائب شهداء الأقصى يموت في السجن بالسرطان، وسيضعون جثته في الثلاجة، وأنتم نائمون. إيه دا يا إخواني؟ القدس أولى القبلتين تُنتهك، والخليل يجتاحها الوحوش وأنتم في المونديال؟ أنا فين، هل هذه فلسطين؟ وإيه يعني فلسطين؟ فلسطين هي أم ناصر. ماذا يجري؟».
في صباح اليوم التالي رويت لصديقي الشيخ وقائع ذلك اليوم الغريب، فقال لي إنه رأى أبو عمار ومجموعة الشباب في المقبرة، وسمعهم يقولون إن عليهم الكتمان، لأن الوقت لم يحن بعد.
ونصحني بأن أكتم سر هذا اليوم. لذلك، أرجو كل مَن يقرأ هذه الحكاية أن يكتم سرها، وألا يبوح به لأحد.
كان الرجل يخطب والناس يتحلقون حوله، وبدا الجو كأننا عدنا إلى تلك الأيام. في تلك اللحظة جاء صاحب المطعم: «يا إخوان رجاء، هلقيت بيجي الأمن وبيخرب الدنيا، يا سيد أرجوك، مَن أنت؟ ولماذا أتيت الآن؟».
سُمع في البعيد أصوات صفارات، وبدأ الناس يهرولون إلى خارج المطعم. اقترب صاحب المطعم من الرجل وربت على كتفه وهو يقوده إلى خارج المطعم، وهمس له بأنه على حق، «بس هادا الحكي بينحكاش بهالإيام». بحث الرجل في جيوبه كي يدفع ثمن الحمص والفول، «على حساب المحل، إنت ضيفنا»، قال صاحب المطعم.
«على كل حال، مفيش معاي فلوس، اسمع يا أخ، قل لهم، الموتى لا يأخذون معهم المال إلى القبر، هذه الثروات التي تتراكم على حساب دم الشهداء لا معنى لها». في تلك اللحظة وصلت مجموعة من الأمن الوقائي إلى المطعم، لكن الرجل اختفى كأنه لم يكن. في مساء ذلك اليوم، شوهد أبو عمار مجتمعاً بمجموعة كبيرة من الشهداء عُرف منهم علاء الصباغ وداود الزبيدي وإبراهيم النابلسي ووديع الحوح وعدي التميمي ومحمد عزيزي ورعد حازم. كانوا يتحلقون حول الختيار وهم منكبّون على رسم الخرائط على الأرض، والتفت الختيار إلى داود وسأله لماذا لم يكمل زكريا ورفاقه حفر النفق إلى جنين، غير أن عتمة المساء ابتلعت جوابه.
في صباح اليوم التالي رويت لصديقي الشيخ وقائع ذلك اليوم الغريب، فقال لي إنه رأى أبو عمار ومجموعة الشباب في المقبرة، وسمعهم يقولون إن عليهم الكتمان، لأن الوقت لم يحن بعد.
ونصحني بأن أكتم سر هذا اليوم. لذلك، أرجو كل مَن يقرأ هذه الحكاية أن يكتم سرها، وألا يبوح به لأحد.
“القدس العربي”