يأمل كثيرون أن تمهد حملة التطبيع الأخيرة مع نظام بشار الأسد للمزيد من المساعدات لإعادة إعمار البلد الذي مزقته الحرب وتخفيف العقوبات في إطار بلوغ هدف العالم العربي الكامن في إخراج دمشق من النفوذ الإيراني من خلال منحها استقلالها الاقتصادي والدبلوماسي.
ويقول ريان بوهل محلل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز ستراتفور للدراسات الأمنية إن إدمان سوريا على أمراء الحرب يشكّل عقبة رئيسية يجب تجاوزها لضمان نجاح هذه العملية، حيث تحول نموذجها السياسي، بعد أكثر من عقد من الصراع الوحشي الذي تواصل خلاله حكم الأسد، من نظام استبدادي قائم على الأيديولوجيا والقومية إلى نظام إقطاعي تُستمد القوة في سيادته من القرابة والعرق وتقسيم أنصار الأسد الرئيسيين للاقتصاد الرسمي وغير الرسمي.
وقسمت الحرب الأهلية البلاد إلى فصائل متنافسة متعددة، وانشقت وحدات كاملة من الجنود السوريين لصالح المتمردين، وارتفعت أعداد المسؤولين السابقين والتكنوقراط في صفوف المعارضة، مما قلّص نفوذ الحكومة وجعل قاعدة مؤيديها تقتصر على الذين اصطفوا مع الأسد على أسس عرقية أو دينية أو دموية بدلا من الخلفيات القومية أو الأيديولوجية.
واندثر الجنود المحترفون والوحدات العسكرية، واستبدلتهم ميليشيات طائفية، كان بعضها برعاية قوى أجنبية مثل إيران وروسيا. وأثبتت هذه الميليشيات ولاءها لكنها لم تخل من الفساد. وطلبت مقابل دعمها السيطرة على قطاعات اقتصادية كبيرة، وخاصة السوق السوداء، حيث تحولت إلى بيع المخدرات مثل الكبتاغون لتجاوز العقوبات الدولية.
وحال هذا النظام دون الانهيار الكلي للحكومة السورية حين بلغت الحرب الأهلية ذروتها. لكن كان لذلك ثمن، حيث أن التسلسل الهرمي السياسي العرقي والطائفي الجديد جعل من السكان السنة أعداء نزحوا وتنقلوا قسرا بسبب ميليشيات النظام المتقدمة.
ويأمل العالم العربي أن يتمكن من جذب سوريا بعيدا عن نموذج أمراء الحرب، وخاصة بالطرق التي تؤثر عليهم. وأضر اعتماد سوريا على صادرات الكبتاغون بالدول المجاورة مثل المملكة العربية السعودية. وتتواصل استضافة تركيا والأردن ولبنان للملايين من اللاجئين السوريين الذين أصبحوا حملا لا يمكن تحمله إلى الأبد.
وشكل تورط إيران وميليشياتها في سوريا خطرا جر البلاد إلى صراع إسرائيلي و/أو أميركي – إيراني أوسع، مما قد يزيد من تدفق اللاجئين. كما ترى الدول العربية الرئيسية في لعب دور صانعي السلام في أماكن مثل سوريا فرصة لتعزيز سمعتها الدولية.
وليست إعادة الانخراط الدبلوماسي مع ذلك سوى الخطوة الأولى نحو معالجة هذه التحديات.
ويقتضي ذلك إعادة الحكومة السورية تشكيل النموذج السياسي المناسب لأمراء الحرب بطرق يمكن أن توسّع الانقسامات الداخلية، وتهدد قبضة عائلة الأسد على السلطة، وتعيد إشعال العنف المدني.
المسؤولون العرب يأملون في إقناع الغرب برفع عقوباته على دمشق لتخفيف الضربة الاقتصادية التي ستتلقاها سوريا بسبب إنهاء تجارة الكبتاغون
ولا يحل الدعم الدبلوماسي الذي أبداه العالم العربي محل النموذج السياسي الذي أبقى سيطرة الحكومة السورية على البلاد، والذي وفر لها ميليشيات متشددة وموالية لمواجهة المتمردين المدعومين من تركيا في الشمال، والذين يبقون على استعداد للضغط على المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة في الشمال الشرقي للتصالح مع الحكومة.
كما يوازن النموذج الحالي بين المنافسين الداخليين الذين يمكن لحكومة الأسد أن توجههم ضد بعضهم البعض، وتعتمد في بعض الأحيان على إيران وروسيا للمساعدة في هذه العملية لضمان عدم ظهور أي منافس داخلي لعائلة الأسد.
في الأثناء، تساعد صادرات الكبتاغون في تغذية هذا النظام السياسي، مما يمنح حكومة الأسد وصولا حاسما إلى العملة الصعبة التي يمكن أن تخصصها لمؤيديها والميليشيات لضمان ولائهم. وسيعني أيضا حرمان سوريا من جزء كبير من تجارتها الخارجية المتبقية، مما قد يخلق أزمة عملة كبرى ويزيد في ثمن الواردات التي تكافح الدولة لشرائها بالفعل. كما قد يسبب هذا اندلاع عنف مدني وسياسي واسع النطاق حتى بين الميليشيات الموالية.
ويأمل المسؤولون العرب في إقناع الغرب برفع عقوباته على دمشق لتخفيف الضربة الاقتصادية التي ستتلقاها سوريا بسبب إنهاء تجارة الكبتاغون. ويطالب الغرب حكومة الأسد بالتصالح مع المتمردين والانخراط في عملية سياسية تسمح للاجئين بالعودة إلى وطنهم. ويتعارض هذا مع ضروريات حكومة الأسد. فإذا أطلقت بالفعل عملية مصالحة جادة مع الجماعات المتمردة، ستكون القضية الأولى تحديد الثوار الذين يلبون المطالب الغربية.
الغرب يطالب حكومة الأسد بالتصالح مع المتمردين والانخراط في عملية سياسية تسمح للاجئين بالعودة إلى وطنهم
وبخلاف هذا، يُطرح سؤال حول ما يمكن أن تقدمه حكومة الأسد من تنازلات ترضي الغرب بينما تحافظ على احتكارها للسلطة. وقد تقبل بعض الجماعات المتمردة تغييرات طفيفة في النظام السياسي، لكن آخرين، مثل هيئة تحرير الشام، سيواصلون المطالبة بتغيير ثوري. وستؤثر كل التغييرات السياسية على ميزان القوى الداخلي الدقيق بين الدولة والميليشيات، مما قد يدفع بعضها إلى استخدام نفوذها للرد العنيف. كما لن تدعم روسيا وإيران أي تغييرات سياسية قد تضعف نفوذها.
ويقول بوهل إن هذه الضروريات السورية تترك احتمال رفع العقوبات التي يقودها الغرب حبرا على ورق. ولن تتمكن دمشق من تلبية المطالب الغربية، وستظل العقوبات سارية وسوريا متمسكة بالسوق السوداء.
لكن يبرز في الأثناء أمل في أن يؤدي التطبيع مع سوريا إلى عودة بعض اللاجئين إلى وطنهم. لكن هذا يتوقف على الاحتمال شبه المستحيل للاعتدال السياسي من سوريا. وستتطلب طمأنة اللاجئين بأنهم سيكونون بأمان عند عودتهم من دمشق كبح جماح قوة الميليشيات التابعة لها. وستكون الحكومة مضطرة أيضا لكبح جماح السكان الموالين الذين لا يرحبون بالضرورة بعودة اللاجئين.
ويؤكد المحلل أن سوريا تحتاج باستمرار إلى الإبقاء على نظام سياسي على غرار أمراء الحرب. وهذا يعني أن التطبيع سيكون في الوقت الحالي دبلوماسيا بالكامل دون تقدم كبير. لذلك، في حين قد تلقى عودة حكومة الأسد الترحيب في العديد من العواصم العربية، إلا أن تدفق رأس المال العربي في الاقتصاد السوري مرة أخرى لن يحدث في المستقبل القريب.
“صحيفة العرب”