قد يقلقنا في سياق علاقاتنا مع محيطنا الحياتي وتخاطبنا فيه، بأنّنا لسنا المتكلّمين وبأنّه ثمّة من يتكلّمُنا! زخمٌ مزمنٌ من التلقين الاختياري أو القسري يتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتريندات والبرامج التلفزيونية الموجّهة، فهل يصحّ القول بأنّها هي التي تتكلّمنا! أم ما زلنا على درجة من السيطرة والتحكّم لتكون ذواتنا بإرادتها متكلّمة، وربّما يعتمل في دواخلنا ما يحرّضنا على التحرّر من هذه الجدليّة.
فإذا كانت هذه ظاهرةٌ حياتيّة مقلقة للإنسان المعاصر، فإنّه ليس ثمّة علاقة تقضّ مضجع الشاعر في التباساتها وتعقيداتها وحيرتها، مثل علاقته مع اللغة، ويبرز القلق الأكثر متعةً في هذه العلاقة متمثّلاً بسؤالٍ جوهريّ: من المتكلّم في القصيدة!
إنّ في الإجابة عن هذا التساؤل غوايةً يمارسها الشاعر السوريّ ياسر الأحمد في كتاب شعرٍي صدر لهُ مؤخّراً في مصر عن سلسلة الإبداع العربي بعنوان « سيرة أولى لحارس الأقداح» ضامّاً بين جنباته سبعةَ عشر فلكاً شعريّاً تنوّعت بنية مداراتِها بين الشعر بالنثر والشعر بالتفعيلة ومتفرّقاتٍ من الشعر بالرتم الغنائيّ الموزون. ولعلّ هذه الغواية تنضوي تحت مفهوم «المتبقّي» الذي أربك به جان جاك لوسركل، منظّري الألسنة في كتابه «عنف اللغة « إلا أنّ التفصيل الأكثر دقّة في هذا الإطار الثقافي النقديّ هو ذاك الهاجس الذي يستحوذ على إرهاصات خلق القصيدة في أنّ (اللغة ليست ذلك البناء الهندسي المنتظم الذي يقيمه عالمُ اللغة، بل إنّ اللغة هي الحياةُ نفسها بفوضويّتها وتناقضاتها).
وهذا ما يمثّلُ جانباً من تصوّراتنا حول اللغة، عندما نقول بأنّها تتكلّمُنا، عبر هذا الإرهاص نقرأ مصافحةً أولى للشاعر في جملةٍ افتتاحيّةٍ تقول «هذا الكتابُ لشدّة التطابق مع الوردة» هل لغة هذا النسق يكتبها الشاعر، أم يريد بهذه الأسلوبية أن تبدو لنا أنّها تكتبهُ؟ هل يتكلّمها، أم هي التي تتكلّمُه لتبدو خاويةً من الاستدلال والتحديد الذي يتدخّل به عادةً موجّهاً للقارئ؟، نسقٌ مزدحمٌ بالإطلاق والتعبيريّة الممسوسة بجمالية غامضة، بضع مفرداتٍ تذعن لجبروت منطق النحو، لكنّها تفضي بالقارئ إلى مجازفةٍ تعبيريّةٍ استثنائيّة في تحرّرها من قيود المنظومة المهيمنة فترسمَ كاريزما شاعرٍ يزيح مكاناً لغوايته بين الأقدام المزدحمة على دروب الشعر، في هذه الحقبة من الاستهلاكيّة وتسليع الإبداع واستسهاله، إنّها غواية «المتبقّي» ذاك الجانب من اللغة الذي لا يخضع للنظام المسيطر على الإفهام والاستدلال الموجّه للمستمع أو القارئ: كلام العرّافين، الهذيان التالي لتعطيل الحواس، المهووسون بالكلمات وإشراقات الصوفيين، لعثمات الأطفال في بداية تكلّمهم، كلّه من المتبقّي المنبوذ خارج حرم المنظومة التعبيريّة، فأيّ غوايةٍ تنتاب الشاعر سوى أنّه يريد أن يبادَر عنفَ اللغة (الحياة) بعنفه الخاص واقفاً على شفير هاوية المتبقّي، وهل الكناية والتورية سوى مظهر من مظاهر العنف الذي يوقعه المتكلّم باللغة، وهو كما يصفه الفرنسيون «ذلك العنف اللذيذ الذي يبهج النفس لأنّه يستجيب لدواعٍ مخبوءة في العقل الباطن للشاعر، والمتلقّي في آن واحد».
هذه الغواية تتجلّى في مظهرٍ تعبيريٍّ أراد له ياسر الأحمد أن يتمركز في أرجاء المجموعة، فثمّة تدويرٌ لمفردة (لغة) متواصلٌ لصيقٌ بزمانيّة شعريّة تحدد باستمرار موقع اللغة من بوصلة ذاته الشاعرة، في مجمل سياقات المحتوى وكأنّنا في عمليّة تسيير ذاتي لعلاقته مع اللغة:
أفترق عن الذاكرة، وتنبت كلماتي بفلاةٍ
وأطرّق هذا المعدن بالشهوةِ
لا سلّم في لغتي
درجات اللون تماهت في عينيّ
ورأيت أنين الشمس لتمحوَ،
زوبعةً مثلاً؟
هل أصنع من عشقي أوديةً
وأطرّزُ للمُدحةِ كتّاناً
واللفظ تقصّفَ في طقسٍ وحشيّ
وتلاطمَ في رئة اللغة الناشزةِ
فأين ستستعر الممحاةُ
وهل للنزفِ طريقٌ غير الجرح؟
هذا التسيير الذاتي لتلك العلاقة يبدو هاجساً قصديّاً، مثل ناقوسٍ يرتّب رنينُهُ أداءً استعاريّاً لياقته عالية في اختلاق أمثولاتٍ جديدة عن تلك العلاقة بفنّية رفيعٍة من تقنيّات الاستعارة والتورية النوعيّة في وظيفتها الشعريّة، يرحّل عبرها جديدَهُ من فضاء المتبقّي في اتجاه المنظومة التعبيريّة المهيمنة التي تعتبر ذلك الفضاء حيّزأ من الهراء، على حدّ تعبير هوسرل، ووحدها تلك النوعيّة الوظيفيّة قادرةٌ على منح جواز سفرٍ لذلك العبور الذي يولّد طاقة تعبيريّة تبعث في القارئ تلك اللذة المجهولة، وقد تمّ تفريغُها عبر التخاطب مع ضميرٍ غائب مهيمن، اختار له أن يكون بصيغة المؤنّث المخاطبة:
ينهض كاحلُـكِ
يتقمّص جائحةً
ويقطّع من وحل النجمة
خبزاً شحاذاً،
ومشانقَ تعتصرُ الشهوةَ،
ويدَين
الأرضُ، الرَّهَقُ، الشفةُ، السيفُ،
وماذا لو صار الذهنُ فَراشاً
أو بكت النافذةُ كخشفٍ؟
هل يُسلم للأحرف بُحته
ويدور كصوصٍ في قنّ اللغةِ
ومع تأنيث الغائب المخاطب، وعلى الرغم من حضوره المُغرِق بتفاصيل سياقاتها الذاتيّة تبدو منوطة بشاعريّة فردانيّة واسمة لفصول الكتاب، تبدو تحديدات الأداء الاستعاريّ في التراكيب الشعريّة توجّه نحو آفاق جماليّة مآلاتها تفضي إلى السياقات الكارثيّة، التي يكابدها القارئ في المعيش اليوميّ وقلقه الوجوديّ العام:
أكلّما لفّقت يدانِ
رؤيا
ذهبنا لنجترحَ للقرنفل شوكةً
وللهيكل طاغيةً
ولثوبكِ قهوةً مسكوبة؟
وكلّما تفشّى مخطوطٌ همجيٌّ
قرأنا هدنتهُ بين ولعٍ وآخر
فاختبري لظهورك ما يعلن الهزيمةَ
ويفتّق جنّةً سندخلها
حرّاساً للفريسةِ
والجنازة
هذا الأداء يشكّل شعريّة معياريّة سائدة في نصوص المجموعة، حيث تبدو الكتابةُ مستفيدة من المفاهيمية التجريديّة والسريالية، فالاستعارة منهجياً تنتسب إلى عوائل وأنظمة وسلاسل ولها نسلٌ وذريّة، إلا أن تلك المفاهيميّة تعتبر أنّ القصيدة هي تمظهرٌ للغة الحرّة المتمرّدة على الأداء الاستعاري الاستنسابي، لكنّ ياسر الأحمد يختارُ المسار الواقع في منتصف المسافة بين الخيال المفرط والغرائبيّة المعبّرة عن الجنون اللاواعي «سرياليّاً» بفردانيّته من جهة، ومن جهة أخرى بتحدّيات التعبير الذاتي عن العمق الاجتماعي والثقافي والهوياتي الجمعي المأزوم بواقعٍ معيشٍ كارثيّ:
فتحاتُ التهوية تقسو على الرطوبةِ
العفنُ المعتّقُ ينجرّ إلى المنفى
وهذه مرآةٌ تتوسّلُ الجرحَ
مُضمَراً في البلاغةِ
جئتُ
باركتُ مقلع الجسدِ في رحابِكِ
وحبّرتُ عقد نكاحٍ ٍ
لسِفَاحِ العالمِ
وأما بالنوى فمسحتُ نهاية الابهام.
وتتواصل هذه المواكبة في التسيير الذاتي لعلاقة الشاعر مع اللغة، وعلى امتداد فصول المجموعة الخمسة عشر، بتنويعاتٍ تحتجب أغلبها وراء عتبات مفتاحيّة، تعتمدُ توريةً مقصودة تحيل القارئ من الخاص إلى العام، من الفردي إلى المتشارك، من الذاتيّ إلى الجمعي: وداعيّات المصاعد – سرقات الظهيرة – في ما يرى النائم – تلويحات ـ وجهٌ بتقاطيع غيمة ـ كتابةٌ في العراء ـ رمادٌ لأوجه الزوبعة. ولعلّ الأبرز بين هذه التنويعات تلك العتبة التي يشيّدها الشاعر لقارئه، ويستوقفه في ما يليها عند برهةٍ من الاسقاطات تحت عتبةٍ بعنوان «موقف الشاعر والجثّة» تبدو فيه ذاتهُ الشاعرة روحَ قلقٍ نُفخت في ذواتِ شعراءَ أمثولات، امرؤ القيس، طرفة بن العبد، بشار بن برد، الحلاج، وفي سيرة كلّ منهم ثمّة ما يجمعهم في أنّهم لقوا حتفهم بالقتل، ولكلّ منهم علاقة وطيدة بأقداح نشوتهم وسكرهم الماديّ أو الغيبيّ، كأّنهم حرّاس أقداحهم (لغاتهم) تلك التي أودت بسيرِهم إلى نهاياتٍ عنيفة، وفي مقطوعة أخيرة «صوتٌ لشاعرٍ مقتول» يبدو ياسر الأحمد كمن يلحق بهم سيرتَهُ الأولى، وعن امرئ القيس نعرض:
هذا الطريقُ إلى حتفي
يقرّبهُ
طيفُ الفتاة
التي
تغتالني
نقّحتُ كلّ بياضٍ نزّه ألمي
فاستعمري القبرَ واختلطي
في شهوتي الأخرى
أو
ارتفقي بجثّتي البيضاءَ،
كنتُ الوهمَ في أهلي
فصرتُ الشعرَ أحياناً وأحياناً
مع «موقف الشاعر والجثة» نتلمّس الهاجس الأكثر حساسيّةً مع اللغة، ففي النهاية ثمّة لغة تضطهدكَ بعنفها كلّما ارتفع منسوب التحررّ فيها، أو منها، وفي أيّ مستوىً من علاقتك بها، وهكذا حياتنا كلّما ارتفع ذلك المنسوب، وتلك هي الفكرة القدريّة التي تتطابق فيها اللغةُ مع الحياة، وعلى ذلك فإنّ «موقف الشاعر من الجثة» فصلٌ يفخخ فيه الشاعر بغواية المتبقّي فكرة التطابق تلك، عبر استحضارٍ لغويّ لأمثولاتٍ في الشعر جسّدت تجلياً صريحاً لها.
ختاماً:
في ما سلف حاولنا أنّ نضئ في «سيرةٌ أولى لحارس الأقداح» على جانبٍ من الجوانب التي انطوت عليه من النقد الثقافيّ، وهو جانبٌ جماليٌّ تخلقه تقنيّة شعريّة يمكن أن نطلق عليها مسمّى «الإفراط التعبيريّ» وهي مقترنةٌ تماماً بحقيقة أنّ الإفراط بالتعبير ما هو إلا تعبيرٌ عن الإفراط بالرغبة. وليس ثمّة مكانٌ للشاعر كي يفرط برغباتهِ سوى القصيدة، لكن عندما يختارُ الوقوفَ على حافّة المتبقّي الذي يمثل عند كلّ متكلّم الحدّ الأقصى من الإفراط في الرغبة، وحتى تبقى القصيدة داخل حرم إمكانيّة التوصيل والتواصل مع القارئ، فإنّ ذلك يستدعي قدرة استعاريّة موهوبة ضمن خيارٍ استثنائيٍّ مع اللغة في أن يجعلها في القصيدة وكأنّها تتكلّمُ الشاعرَ لكنه يبادرها بتعبيريّةٍ عنفيّةٍ قهريّة ليتكلّمَنا. هكذا في تطابقٍ صميمي بين الحياة بتناقضاتها وفوضاها، وكارثيّة المآلات التي ألحقتها بالإنسان المعاصر من جهة واللغة المهيمنة بوظيفتها الشعريّة من جهة أخرى، وهذه قناعةٌ عن التطابق تولد بالفطرة في وعي الشعراء، إلا أنّه لكلّ منهم نموذجه الخاص في مواجهتها، خصوصاً حين يفتتح أحدهم معك فضاءً جماليّاً بجملةٍ ملهمةٍ تقول «هذا الكتاب لشدّة التطابقِ مع الوردة».
كاتب سوري
“القدس العربي”