ما يحدث غالبا في الأزمات الدولية هو الدخول على خط الحدث والاستثمار فيه، فسلوك الدول حسب منظري العلاقات الدولية في غالبيته العظمى عبارة عن ردود أفعال، وهذا ما بدأت ملامحه تظهر مؤخرا لدى أغلبية اللاعبين الدوليين والإقليميين كرد فعل على النزاع الدائر في غزة، لكن رد فعل النظام السوري – رغم أنه طبيعي – أثار استغراب البعض، فقد اختفى عن المشهد تماما؛ كأنما هو في غيبوبة.
كمعظم أنظمة الاستبداد سعى نظام الأسد منذ وصوله إلى السلطة لاستمرار منظومته السلطوية، وذلك من خلال توفير جملة من المقومات التي يمكن أن يطلق عليها اسم “مثلث الديمومة المقدس” ويضم هذا المثلث: القاعدة المُشرعنة والناظمة (القاعدة الدستورية التي تعطي للرئيس صلاحيات مطلقة)، والمورد البشري (القوى البشرية العاملة في مؤسسات الدولة)، والمورد المالي (يتم تأمينه من خلال التحكم بموارد الدولة).
طوال سنوات حكم نظام الأسد ضمن نموذج الإدارة المركزي، لهذا النظام مقدرة عالية مكنته من السيطرة على مؤسسات الدولة السورية من خلال التحكم بثالوث الإدارة المقدس، ولكن بعد العام 2011. أي، بعد الحرب التي أعلنها النظام على الشعب السوري الثائر؛ بدأت أضلاع مثلث السيطرة تصاب بالعطب، واستطاع النظام المحافظة على أحد أضلاع هذا المثلث فقط، وهو القاعدة المشرعنة من خلال دستور 2012 وجملة القوانين التي أصدرها بعد عام 2011.
على المستوى المتعلق بالمورد البشري عانى النظام بعد عام 2011 من فقدان خطوط التجنيد التقليدية، فقد شكلت حركة الانشقاقات عن مؤسسات الدولة – بما فيها العسكرية – وحركة النزوح والهجرة والامتناع عن الالتحاق بمؤسسات الدولة ضربة قوية أضعفت هذا المورد، وهو ما دفع بالنظام إلى استقطاب المورد البشري من خارج الأطر التقليدية للمؤسسة العسكرية، وذلك من خلال الاستعانة بالميليشيات الأجنبية والمحلية.
الوضع الاقتصادي الحالي الذي يعيشه النظام اليوم يظهر نوعا من العجر الذي يقارب الشلل، وهو ما انعكس على مقدرة مؤسسات الدولة في القيام بواجباتها. وهو ما دفعه للبحث عن مصادر تمويل بديلة؛ كالقروض وتجارة الكبتاغون
وأما فيما يتعلق بالمورد الاقتصادي فقد حاول النظام المحافظة على معادلة البقاء القائمة على توفير الموارد الضرورية لاستمرار مؤسسات الدولة، لكن العقوبات التي فرضتها أميركا عبر قانون قيصر قد أصابت جهود النظام في هذا المجال في مقتل، فالوضع الاقتصادي الحالي الذي يعيشه النظام اليوم يظهر نوعا من العجر الذي يقارب الشلل، وهو ما انعكس على مقدرة مؤسسات الدولة في القيام بواجباتها. وهو ما دفعه للبحث عن مصادر تمويل بديلة؛ كالقروض وتجارة الكبتاغون.
اليوم؛ قد لا يختلف اثنان على أن النظام السوري حافظ على بقائه معتمدا على المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية المقدمة من قبل كل من روسيا وإيران، لكن هذه المساعدات كان ثمنها نفوذا متعاظما لكلا الدولتين، فالسلطات الحصرية لرأس النظام باتت تعيش حالة منافسة من مراكز سلطة جديدة تتجاوز النظام ومؤسسات الدولة، فالدور الروسي والدور الإيراني في سوريا بات ينافس سلطة بشار الأسد، ولم يعد بشار قادرا على تعيين وتسريح ضباط الأمن والقادة العسكريين بشكل مستقل عن الدور الروسي والإيراني.
ولم تقتصر المنافسة من قبل الحلفاء على مستوى السلطة، بل امتدت نحو الاقتصاد، فالعقود التي وقعها النظام مع كل من روسيا وإيران سمحت لهما بزيادة دورهما في التحكم بالاقتصاد السوري. بالإضافة إلى ذلك، فإن حالة الحرب أفرزت أمراء حرب يصعب التحكم بهم؛ يمارسون سلطاتهم باستقلالية كبيرة، ويتبعون أنشطة مستقلة في تأمين مواردهم الاقتصادية. وعليه؛ بات الاقتصاد متحكم به من قبل قوى ما دون الدولة وقوى ما فوق النظام ذاته.
كل المؤشرات تقول إن النظام السوري – على عكس ما توقع البعض بأنه تجاوز مرحلة الخطر – يمر الآن في أسوأ مرحلة؛ منذ اندلاع الثورة السورية حتى الآن
كل ذلك يفسر لماذا يعتقد كثيرون أن رد فعل النظام السوري حيال أحداث غزة التي وضعت المنطقة على شفا حرب إقليمية هو رد فعل طبيعي؛ فهو وصل مرحلة من العجز الذي أفقده المقدرة على مواجهة أبسط القضايا، وهو بالأمس القريب كان يحاول مواجهة أزماته الداخلية الخانقة في محاولة لبيع الأوهام للناس، ويتذكر الجميع كيف قامت آلته الدعائية بتصوير الزيارة الاستجمامية لرأس النظام إلى الصين على أنها الحل السحري لأزمات سوريا.
كل المؤشرات تقول إن النظام السوري – على عكس ما توقع البعض بأنه تجاوز مرحلة الخطر – يمر الآن في أسوأ مرحلة؛ منذ اندلاع الثورة السورية حتى الآن. صحيح أن حرب غزة احتكرت المشهد الإعلامي، إلا أن هذا لا يعني أن تفاعلات الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها السوريون قد توقفت؛ كل ما في الأمر أن صورة تلك التفاعلات لم تعد تجد لها مكانا في زحمة الأخبار المتعلقة بحرب غزة، فحراك السويداء – على سبيل المثال – أنهى أسبوعه العاشر وهو مازال متوهجا متخذا منحى تصاعديا. كما تشير بعض التقارير إلى أن مخاوف النظام وحلفائه من احتمالات الانفجار الشعبي أو الأحداث الأمنية المفاجئة قد أصبحت مرتفعة جدا.
لقد كشف رد فعل النظام السوري حيال الحدث الإقليمي المتمثل بحرب أن النظام السوري متعب ومرهق لدرجة الإعياء، وأن النظام السوري في أسوأ حالاته على الإطلاق.
“تلفزيون سوريا”