يمر أكثر من شهر على قصف اسرائيل لغزة براً وبحراً وجواً، ولا تظهر صورة واحدة عن انتصار اسرائيلي، حتى ولو كان صغيراً ورمزياً. لا إنجاز عسكرياً واحداً، بعد رمي أكثر من 35 ألف طن من القنابل على القطاع الصغير. ربما هذه هي الخلفية الفعلية لتصريح وزير التراث الاسرائيلي، عندما دعا إلى ضرب غزة بقنبلة ذرية. كأن هذا العدد الكبير من الضحايا والدمار، لا يكفيان لتجاوز صدمة السابع من اكتوبر. القنبلة الذرية هي الحل. وحدها قادرة على محو غزة، كي يرتاح الوجدان الاسرائيلي من الشعور بالفشل، وتبدأ الذاكرة بالتصالح مع نفسها.
منذ أكثر من شهر، لا شيء سوى الحديث عن الخطط التي تهيئ الأرض للحرب. يقول قادة اسرائيل في مجلس الحرب المصغر، إنها ستكون طويلة. وأعلن بعضهم أنها ستستمر شهوراً عديدة، وآخرون يتحدثون عن سنة. وهذه السنة مهلة مفتوحة، من أجل القضاء على حركة حماس عسكرياً، وإعادة احتلال القطاع، وفرض وضع أمني وعسكري جديد بإدارة اسرائيلية مباشرة. وهذا يعني أن الأوضاع ستعود إلى العام 1967، إلا في حال وجدوا من يشاركهم في تقاسم أعباء الاحتلال، مصر أو السلطة الفلسطينية، وربما جهات أخرى، من المنطقة وخارجها. كل شيء وارد، والاحتمالات مفتوحة.
لم يتركوا قطاع غزة نتيجة “اتفاق أوسلو” مع الفلسطينيين، انتظروا حتى العام 2005 حتى يخلوا 21 مستوطنة كانت تحتل نحو 35% من مساحة قطاع غزة. انسحبوا من طرف واحد، وفق ما سمّوه خطة “فك الارتباط” مع غزة، لأن هذا المستطيل الصغير سبب لهم صداعاً لا حدود له، حتى إن رئيس الوزراء في العام 1992 اسحق رابين الذي وقع “اتفاق اوسلو” مع ياسر عرفات، قال قبل ذلك “أتمنّى أن أستيقظ يوماً من النّوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر”. وهناك أسباب أخرى للانسحاب، منها أن غزة لا تمثل لإسرائيل أهمية إستراتيجية من الناحيتين السياسية والدينية. وكان رئيس الوزراء حينذاك أرئيل شارون يريد التفرغ للمعركة الأهم في القدس والضفة الغربية، عبر تكثيف الاستيطان، وأخيراً “مخطط الضم”. وفي ذلك الوقت استقال وزير المالية بنيامين نتنياهو من الحكومة، وبرر ذلك بأنه لا يمكنه أن يكون جزءاً من هذه الخطوة، التي وصفها بـ”غير المسؤولة، وتقسم الشعب، وتضر بأمن إسرائيل، وتمثل خطراً مستقبلياً، على وحدة القدس”.
بقيت غزة شوكة في الخاصرة الاسرائيلية. ورغم أهمية أشكال المقاومة في الضفة الغربية، فإن هذه النقطة هي التي جعلت الكأس يطفح أكثر من مرة. خاضت مع اسرائيل ست حروب كبيرة، والسابعة هي التي تدور حالياً، لكن هذه مختلفة شكلاً ومضموناً، بحيث لا يمكن أن نعدّها حرباً بالمعنى التقليدي. صحيح أن حركة حماس ليست جيشاً، يرابط على خطوط جبهات في مواجهة الجيش الاسرائيلي، لكنها قوة عسكرية تحارب، تواجه القوات الاسرائيلية وتلحق بها خسائر. تقوم بقصف اسرائيل بالصواريخ، وتصور الكثير من عملياتها العسكرية. ينطبق عليها توصيف العدو الخفي، وهو نمط من المحاربين ليس جديداً، وسبق للعديد من الجيوش الكبرى أن خاضت حروباً طويلة مع أعداء يشبهونه. حركات لا تملك القدرة على مواجهة الجيوش التقليدية بالأسلحة نفسها، ولذلك لجأت إلى حروب العصابات، من أجل إلحاق الخسائر والهزائم بالجيوش الكلاسيكية، وهذا حصل مع الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق.
رغم أن اسرائيل خاضت حروباً عديدة مع حركة حماس في غزة، فإنها لم تبنِ استراتيجية حرب، تقوم على قواعد اشتباك مع عدو يموه نفسه دائماً، كي يستمر في البقاء على قيد الحياة، ليرجع إلى المعركة من جديد، في كل حرب أقوى من المرات السابقة. تطور من “الصواريخ العبثية”، حسب وصف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى صواريخ يصل مداها إلى 250 كلم، قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بإسرائيل، واجبار الاسرائيليين على قضاء ساعات في الملاجئ، والهجرة من كل المستوطنات التي تُعرف بـ”غلاف غزة”، والحدود مع جنوب لبنان.
لا يشكل ذلك استهتاراً بقوة العدو، بل ثقة مفرطة في النفس. قناعة لم تهتز، بأن الجيش الاسرائيلي يستطيع القضاء على تهديد حماس، مهما بلغ من القوة. واضعو الخطط لم يتركوا هامشاً للخطأ، أو للحساب بأنه قد يحصل سوء تقدير القوة، كما حدث هذه المرة. عندها لن يعود الحل في مزيد من القوة، حتى لو تم تغيير الأسلحة، وشحن نوعيات جديدة مباشرة بالطائرات من الولايات المتحدة. وهذا يجري الآن، اسرائيل تبيح لنفسها استخدام كافة أنواع الأسلحة، وهذا واضح في ما يخص القنابل الفوسفورية، التي صارت سلاحاً معتاداً يجري استخدامه طيلة الوقت ضد الأحياء السكنية، رغم أنه محرم دولياً ضد الجيوش.
ومن بين ما هو محرّم أيضاً، حسب الاتفاقيات الدولية، ولا تلتزم به اسرائيل هو، مهاجمة أهداف عسكرية وسط التجمعات المدنية، لأنه يستحيل التمييز بين المدنيين والعسكر. استخدام المتفجرات ذات الطاقة العالية، والقذائف الفوسفورية. منع قصف منطقة بأكملها على أنها تتضمن أهدافاً عسكرية. وفي ذلك كله يجب أن يكون الهدف العسكري واضحاً ومحدداً، وإلا سيتم تصنيف ذلك على أنه إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وليس حرباً.
“المدن”