تناول المحرر الدبلوماسي في صحيفة “الغارديان” باتريك وينتور المقترحات الأمريكية والأوروبية حول اليوم التالي لغزة. وقال إن الدبلوماسيين الغربيين يعوّلون على السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تم تهميشها في السابق، لملء الفراغ السياسي، الذي من المحتمل أن ينشأ عن التدمير المزمع لحركة “حماس” في غزة، لكنهم يعرفون أن أداة الإنقاذ التي اختاروها لا تحظى بشعبية، وتعتبر فاسدة، وفي حاجة ماسّة لجيل جديد من القادة.
إضافة إلى هذا، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرفض مقترحات الغرب لوضع السلطة الفلسطينية في قلب حكم ما بعد الحرب في غزة، ما أثار الذعر داخل إدارة بايدن.
نتنياهو يرفض مقترحات الغرب لوضع السلطة الفلسطينية في قلب حكم ما بعد الحرب في غزة، ما أثار الذعر داخل إدارة بايدن
وأضاف وينتور؛ الواقع أن إسرائيل معادية للسلطة الوطنية إلى حدّ أنها منعت وزير خارجية السلطة من السفر، هذا الشهر، إلى البحرين، للتحدث أمام مؤتمر حضره زعماء أمريكيون وعرب حول خططها لمرحلة ما بعد الحرب.
إلا أن السلطة عبّرت عن استعدادها للعب دور في غزة. ولكن فقط إذا كان ذلك جزءاً من خطة سلام واضحة وشاملة مع إسرائيل، تشمل أيضاً الضفة الغربية، لكن كثيرين يشكّكون في قدرتها على القيام بذلك.
ونقل الكاتب عن ناصر القدوة، ابن شقيقة ياسر عرفات، المرشح لزعامة السلطة الوطنية في المستقبل: “أعتقد أن السلطة الحالية، بشكلها الحالي، والرجال الذين يقودونها، غير قادرة حتى على أن تطأ أقدامها قطاع غزة، ناهيك عن التعامل مع المهام الكبرى المطلوبة في هذا الوقت”.
وينصح مراقبون آخرون، مثل المفاوض الإسرائيلي السابق دانييل ليفي، السلطة الوطنية بعدم دخول غزة، إذا ظل الأمن حكراً على إسرائيل، كما يصرّ نتنياهو. وقال: “لا أعتقد أنه سيكون من الحكمة لأي حركة فلسطينية أن تقول: سنفعل ذلك تحت إشراف إسرائيل الأمني”.
وتعني هذه العقبات أن صنّاع السياسة الغربيين يواجهون تحدياً كبيراً في تحويل السلطة الفلسطينية إلى هيئة مقبولة للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكذلك لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي أمضى 15 عاماً في الحدّ من نفوذها.
وفي الوقت الحاضر، يتحدث بعض الدبلوماسيين، مثل مبعوث الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط بريت ماكغيرك، عن سلطة فلسطينية يتم إصلاحها أو تنشيطها لإدارة غزة والضفة الغربية. وقال جوزيب بوريل، مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي إن الجهة الوحيدة التي يمكنها السيطرة على غزة هي السلطة الوطنية.
وبشكل أكثر غموضاً، يتحدث البعض عن الحاجة إلى دعم “الفلسطينيين المحبّين للسلام”، وهي العبارة التي استخدمها مؤخراً وزير الخارجية البريطاني السابق جيمس كليفرلي.
وهذا يعني ضمناً إخراج “حماس” من غزة، بما في ذلك منع أنصارها من الترشّح في أي انتخابات مستقبلية. ومع ذلك، يقول وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إن “حماس” هي فكرة، ورسّخت نفسها بعمق في غزة منذ فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، في عام 2006، كما يقول.
والحقيقة هي أنه لا أحد يعرف المزاج السياسي الذي سينشأ من غزة في نهاية الصراع، لكن إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، والعديد من القادة العرب، يشعرون أنه من الافتراض المتفائل تماماً الاعتقاد بأن “الفلسطينيين المحبين للسلام” سيخرجون من تحت أنقاض غزة.
ولتقييم ما إذا كانت السلطة الفلسطينية قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة في غزة، وقابلة للإصلاح، لا بدّ من تقديم بعض التوضيحات لوضعها الحالي الصعب. وهذا بدوره يجب أن يبدأ بالاعتراف بأن أولئك الذين يدعون إلى “تنشيط” السلطة الفلسطينية هم على وجه التحديد نفس الجهات الفاعلة التي قاومت مثل هذه الخطوات لسنوات عديدة.
القدوة: السلطة الحالية، بشكلها الحالي، والرجال الذين يقودونها، غير قادرة حتى على أن تطأ أقدامها قطاع غزة
ويسرد وينتور عدة أسباب لضعف السلطة الوطنية، فالفساد مستشرٍ على نطاق واسع. لكنها أيضاً مصابة بالشلل المالي بسبب امتناع المانحين بقيادة الولايات المتحدة عن دفع المستحقات. وفي عام 2013، شكّلت المنح الخارجية، التي بلغت حوالي 1.4 مليار دولار، ثلث إجمالي نفقات السلطة. وبحلول عام 2022، انخفض هذا المبلغ إلى أقل من 350 مليون دولار، أو أقل بقليل من 3% من إجمالي إنفاق السلطة الفلسطينية، وفقاً لتقرير صدر هذا العام عن مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط. إلى جانب حجب إسرائيل، في عام 2023، ضرائب الاستيراد الفلسطينية بقيمة 800 مليون دولار.
ويعتقد الكاتب أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، حاول، خلال السنوات الثماني، التي قضاها كمبعوث خاص للجنة الرباعية التي تضم القوى الدولية الساعية إلى التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، اعتباراً من عام 2007، جاهداً بناء سلطة فلسطينية فاعلة، مبنية على اقتصاد متنام، وفشلَ إلى حد كبير في تحقيق الأهداف، بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني. كما أوقفت الولايات المتحدة، أي مدفوعات لها، منذ عام 2017، احتجاجاً على دفع مساعدات لعائلات الشهداء والأسرى الفلسطينيين.
لكن نقطة الضعف الأكبر التي تعاني منها السلطة الفلسطينية هي أنها اضطرت إلى العمل بناء على افتراض زائف. عندما تم إنشاء السلطة الفلسطينية نفسها، في عام 1994، روّج لها القادة الفلسطينيون كهيئة انتقالية في عملية دبلوماسية بعد اتفاقيات أوسلو من شأنها أن تؤدي إلى إقامة الدولة. ومع ذلك، فإن عدم وجود أي دبلوماسية تفاوض تذكر، وتضاؤل احتمال حل الدولتين أفقد السلطة مبرر وجودها.
ومع توقف الدبلوماسية الثنائية، منذ عام 2001، وفي خضم الانتفاضة الثانية التي قادتها الفصائل الفلسطينية المسلحة، ركزت السلطة الفلسطينية على طرق أخرى لإثبات أهميتها وإظهار أن إستراتيجية اللاعنف يمكن أن تؤدي إلى نتائج.
وهكذا بدأ محمود عباس، خلفاً لياسر عرفات، حملة للمطالبة بالاعتراف الكامل بدولة فلسطين في الأمم المتحدة. وقد حكمت عليها المعارضة الأمريكية بالفشل، ولم تترك لها إلا صفة مراقب في الأمم المتحدة. وتمكّنت من الحصول على عضوية اليونسكو، ولكن حتى المحاولة المتواضعة للانضمام إلى هيئة السياحة التابعة للأمم المتحدة تم التخلي عنها بسبب الضغوط الأمريكية.
كما فشلت في جهود دفع المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في الضفة الغربية. حيث عارضت كل من بريطانيا والولايات المتحدة مثل هذا التحقيق. وقالت إدارة ترامب: “الفلسطينيون غير مؤهلين كدولة ذات سيادة، وبالتالي ليسوا مؤهلين للحصول على العضوية كدولة، أو المشاركة كدولة، أو تفويض السلطة القضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية”.
وكان المسار القانوني اللاعنفي الآخر الذي اتبعته السلطة الفلسطينية هو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة. وفي كانون الأول/ ديسمبر2022، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية 87 صوتاً مقابل 26 صوتاً على طلب حكم استشاري بشأن وضع الاحتلال من المحكمة في لاهاي. ولكن ما إنْ حَضَرَ محامو السلطة الفلسطينية إلى لاهاي حتى حضر محامو الحكومتين الأمريكية والبريطانية، قائلين، مرة أخرى، إن هذا هو الطريق القانوني غير المناسب الذي يمكن للفلسطينيين اتباعه. ومن المقرر أن تبدأ الإجراءات الشفهية في شهر شباط/ فبراير من العام المقبل، وتطلب الولايات المتحدة الآن من السلطة الفلسطينية الانسحاب، إذا أرادت موافقة إسرائيل على السماح لها بالدخول إلى غزة.
ماكرون، والعديد من القادة العرب، يشعرون أنه من الافتراض المتفائل تماماً الاعتقاد بأن “الفلسطينيين المحبين للسلام” سيخرجون من تحت أنقاض غزة
ونتيجة لعدم تحقيق السلطة أي تقدم في هذه التحركات، انتهى الأمر بأن أصبح الفلسطينيون ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على نحو متزايد باعتبارها مقاولاً أمنياً لإسرائيل، وباسم مكافحة الإرهاب غالباً ما فرضت عدالة تعسفية في الضفة الغربية.
وقدرت منظمة “محامون من أجل العدالة”، وهي مجموعة توثق مثل هذه الحالات المتعلقة بالعدالة التعسفية، أنه، في عام 2022 وحده، اعتقلت السلطة الفلسطينية أكثر من 500 فلسطيني، لارتكابهم أفعالاً ضد إسرائيل. وقالت السلطة الوطنية إن البديل هو اندلاع انتفاضة ثالثة، وانهيار السلطة.
وقد أثّر كل هذا بشكل كبير على سمعة السلطة. وتظهر استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أنه، قبل أيام من هجوم “حماس” على الإسرائيليين، اعتبر 80% من الفلسطينيين أن السلطة الوطنية فاسدة، واعتبرها 62% عائقاً وليست رصيداً. ولا يتمتّع أي من مؤسساتها الرئيسية بشرعية شعبية.
ولم يؤد تزايد العنف في الضفة الغربية هذا العام إلا إلى إضعاف السلطة بشكل أكبر، وهو ما يصبّ في مصلحة المسلحين في الضفة الغربية، الذين يقدمون لشباب الضفة الغربية فرصة لمواجهة المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية. وشهدت الانتخابات الجامعية الأخيرة التي جرت في الجامعات الطلابية فوز كتلة الوفاء الإسلامية التابعة لـ “حماس” على حركة “فتح” في سلسلة من الانتخابات المتنازع عليها بشدة.
ومكمن القلق هنا هو أن الولايات المتحدة، في سعيها إلى جعل السلطة مركزاً للسياسة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الحرب في الضفة الغربية وقطاع غزة، ربما تراهن على الحصان الخاسر، وتقلل من قدرة “حماس” على الصمود في غزة.
من المؤكد أن عباس باعتباره بطل السياسة الفلسطينية الإصلاحية يبدو اقتراحاً سخيفاً. بايدن، الذي لم يكن هو نفسه شاباً يافعاً، خرج غير متأثر للغاية عندما ذهب لرؤية عباس في رام الله، في عام 2022، وتعرض لبيان افتتاحي طويل مدته 25 دقيقة. عباس البالغ من العمر 88 عاماً هو في عامه الثامن عشر من ولايته الرئاسية التي تمتد لأربع سنوات، ولم يتم إجراء أي انتخابات منذ تأجيل جولة عام 2010.
إن المناورات لخلافة عباس كانت جارية منذ سنوات، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الانقسام بين الفصائل.
فهناك حسين الشيخ، بصفته أمين سر اللجنة التنفيذية لـ “منظمة التحرير الفلسطينية”، وهو المفضّل لدى الولايات المتحدة الذي تنظر إليه على أنه رجل عملي، على الأقل، فهو يتحدث العبرية بطلاقة، ويعرف كبار ضباط الجيش والسياسيين الإسرائيليين جيداً.
الصحيفة: انتهى الأمر بأن أصبح الفلسطينيون ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على نحو متزايد باعتبارها مقاولاً أمنياً لإسرائيل
وقد يكون مروان البرغوثي مرشحاً أكثر قبولاً، إلا أنه في السجن منذ عام 2002.. من المحتمل أنه كان سيهزم عباس في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية لعام 2021 الملغاة، ووفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، كان سيهزم أيضاً زعيم “حماس” إسماعيل هنية بنسبة 60% مقابل 37%.
وهناك محمد دحلان، الذي يتمتع بميزة كونه ولد في مخيم للاجئين في غزة. ومع ذلك، ينظر إليه على أنه من صنع دولة الإمارات المطبعة مع إسرائيل.
ومن يتحدى سلطة عباس يدفع الثمن؛ تم عزل ناصر القدوة، من اللجنة المركزية لـ “فتح”، في أيار/ مايو 2021، بعد أن قال إنه سيشكل قائمة مشتركة مع البرغوثي لتحدي عباس.
وعلى نحو مماثل، انتهت المحاولة الوحيدة التي نشأت داخلياً لإصلاح السلطة الفلسطينية، التي انطلقت في عام 2010، وحملت عنوان “الطريق الأخير إلى الحرية”، بكارثة بالنسبة لرئيس الوزراء، آنذاك، سلام فياض. وانتهت محاولته للقضاء على الفساد بالقضاء عليه، في عام 2013. وهو يعيش الآن في برينستون، نيو جيرسي.
وبوريل مقتنع بوجود بقايا لـ “فتح” في غزة يمكن البناء عليها. وقال: “هناك 60 ألف شخص في غزة يتلقّون رواتب من السلطة الفلسطينية: 30 ألفاً كانوا موظفين في السلطة الفلسطينية قبل سيطرة “حماس”، و30 ألفاً آخرين من المتقاعدين”.
إن الدبلوماسيين الغربيين في غزة ليسوا جاهلين تماماً بشأن المسار الذي ينتظرهم، لكن المهمة قد تبدو أقل صعوبة لو لم يكتفوا بالمراقبة، أو ما هو أسوأ من ذلك، بالضمور البطيء للسلطة الوطنية.
“القدس العربي”