تتصاعد منذ بدء حرب إسرائيل الجديدة على الفلسطينيين في قطاع غزة أصوات حقوقية وسياسية في القارات الخمس تطالب بمقاضاة إسرائيل لارتكابها «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية».
وتوثّق منظمات حقوقية دولية وفلسطينية حالات يمكن الجزم بكونها، وفق اتفاقيات جنيف الأربع الموقّعة العام 1949 وبروتوكوليها الإضافيّين الموقّعين العام 1977، «جرائم حرب»، لاستهداف الجيش الإسرائيلي مدنيّين فلسطينيين عن عمد، أو لقصفه مستشفيات وسيارات إسعاف وغير ذلك من عملياتٍ توقِع الأذى المقصود بالمنشآت المدنية وقاطنيها.
ويقول المعنيّون بالتوثيق إن بعض الجرائم يمكن أيضاً أن يُعد «ضدّ الإنسانية» في حالات، كمثل الحصار المانع دخول مستلزمات الحياة ومقوّماتها، أو التهجير الجماعي للسكّان وإلزامهم تحت القصف والإجراءات الحربية على مغادرة منازلهم ومدنهم أو بلداتهم ومخيّماتهم، وصولاً إلى تحويل استهداف البنية التحتية الطبية والاستشفائية إلى سياسة عنف ممنهجة بما يتسبّب بإعدام قدراتها على الاعتناء بالمرضى والجرحى المدنيين.
على أن التوثيق وحده لا يكفي قانونياً، إذ ينبغي أن تتقدّم أطراف ذات أهلية بشكاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية تطالب بالتحقيق في الانتهاكات الاسرائيلية، أو أن يبادر المدّعي العام فيها إلى التحقيق (خاصة أن دولة فلسطين موقّعة على ميثاق روما للمحكمة)، أو أن يطلب مجلس الأمن الدولي من المحكمة القيام بذلك، وهذا بالطبع مُستبعد (وثلاثة من أعضائه الدائمين، أمريكا وروسيا والصين، غير موقّعة أصلاً على الميثاق المعني – أو هي موقّعة ثم متراجعة عن التوقيع).
جريمة الإبادة الجماعية
وإذا كان القول بـِ»جرائم الحرب» و«الجرائم ضد الإنسانية» لتوصيف الانتهاكات الإسرائيلية صار محطّ إجماع لدى معظم المنظمات الحقوقية والأفراد المختصّين في مجالات القانون الدولي الإنساني، فإن توصيفاً آخر أشدّ خطورة بدأ يُستخدم من قبل عددٍ من الخبراء، ولو أن استخدامه يظلّ حذراً لصعوبة التداول به من ناحية حقوقية ولندرة حالات إثبات حصوله تاريخياً خلال حروب أو مجازر ارتُكبت على مدى عقود. ونعني هنا التوصيف المستند إلى مفهوم «الإبادة الجماعية» أو الـ«جينوسايد».
تُعرّف «الإبادة الجماعية» في الاتفاقية الدولية الأولى الموقّعة لمكافحتها العام 1948، ثم في ميثاق روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية العام 1998 على النحو التالي:
«الإبادة الجماعية هي أيّ من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، من خلال:
– قتل أعضاء من الجماعة.
– إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة.
– إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
– فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
– نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
يمكن بناء على هذا التعريف، وبالعودة إلى حجم القصف التدميري والاستهداف المباشر للفلسطينيين قتلاً وحصاراً وتعذيباً جماعياً جسدياً ونفسياً وعقلياً، بوصفهم فلسطينيين في قطاع غزة، بالترافق مع تصريحات رسمية إسرائيلية تُفصح عن ذلك (ولنا عودة لها)، الحديث عن توافر أدلّة مادية لارتكاب إسرائيل جريمة «الإبادة الجماعية»، أو على الأقل المباشرة في ارتكابها.
فأعداد القتلى المدنيين الشديدة الارتفاع، وحجم التدمير والتهجير وجعل مقوّمات الحياة والوجود نفسها معدومة عبر القطع الكلي أو الجزئي للمياه والكهرباء والوقود والاتصالات، وعبر الحصار والمنع الكلي أو الجزئي لدخول المساعدات الإنسانية – الغذائية والطبية – وعبر تدمير المستشفيات والتسبّب بوفاة مرضى وأطفال لاستحالة معالجتهم تُحيل بوضوح إلى البنود الثلاثة الأولى من التعريف القانوني المذكور آنفاً.
لكنّ السعي لنقل ذلك من «الحيّز النظري» المستند إلى الوقائع الموثّقة، إلى حيّز «الشكوى القانونية» أو «التصنيف القانوني» يتطلّب خوضاً أو تدقيقاً في مسألة إضافية، هي مسألة القرار بتنفيذ الإبادة أو إرادة التنفيذ. ذلك أنه من شروط اعتبار الجريمة المعنية جريمة «جينوسايد» إثبات وجود قرار أو إرادة صريحة بارتكاب الفعل الجرمي.
والبعض يعتبر أن التصريحات الإسرائيلية الرسمية (من قبل رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير دفاعه ووزير الأمن القومي وعدد من الوزراء والنواب والقادة العسكريين) الداعية للقتل والانتقام والنازعة الإنسانية عن الفلسطينيين أو المعتبرة أن «لا مدنيين في غزة بل حفنة من الإرهابيين وداعمي الإرهاب»، أو أن على سكّان القطاع إخلاءه أو إخلاء أجزاء منه أو الطالبة علناً تهجير كلّ أهله ونقلهم إلى دول مجاورة وبعيدة، ومثلها القرارات الواضحة الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين بإحكام الحصار على قطاع غزة وذكر المواد الممنوع إدخالها على الرغم من الإدراك بأن لا حياة ممكنة من دونها، وقدرة الجيش الإسرائيلي على تطبيق كل ذلك وشروعه بالأمر، تعدّ (هذه التصريحات والقرارات والإجراءات) بحدّ ذاتها كافية لإثبات الرغبة بالإبادة أو إرادة الإبادة والانتقال من الإعلان إلى حيّز التنفيذ.
وقد دفع ذلك أحد مسؤولي الأمم المتحدة (كريغ مخيبر) إلى الاستقالة اعتراضاً على الصمت الدولي تجاه ما أسماه «حالة إبادية واضحة»، ودفع عدداً آخر من الخبراء الأمميين إلى توقيع رسالة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، تحذّر من أن الفلسطينيين يواجهون خطر «الإبادة الجماعية». وذهب المدّعي العام السابق للحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو إلى حدّ اعتبار أن فعل «الإبادة بات على الأرجح قائماً، وليس خطراً فحسب»، فيما قال المؤرّخ الإسرائيلي وأحد الباحثين المعروفين في قضايا الإبادة الجماعية راز سيغال إننا أمام «حالة دراسية نموذجية» من حالات الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.
الأهم ربّما، على الصعيد الإجرائي، أن خمس دول هي جنوب أفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجيبوتي وجزر القمر تقدّمت قبل أسبوعين (في 17 تشرين الثاني/نوفمبر) بطلبٍ رسمي إلى مدعي عام المحكمة الجنائية كريم خان للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية، وهو ما لم يبدأ بعد.
ويمكن لدول أُخرى أن تطلب الأمر أيضاً. كما يمكن لشكاوى أن تُسجّل ضد إسرائيل في أكثر من دولة من قبل فلسطينيين يحملون جنسية الدول المعنية إن كانوا من ذوي الضحايا في غزة المزدوجي الجنسية.
التحدّي القانوني (والسياسي) بات يكمن اليوم إذاً في كيفية نقل التوثيق والبحث في الأدلّة والتعريفات إلى حيّز الشكاوى لمقاضاة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية أو الوطنية، ومكافحة الحصانة التي طالما حمتهم وحمت ارتكاباتهم وفظائعهم لأسباب سياسية. وثمة أكثر من فرصة لتحقيق ذلك ولتشديد الضغط على إسرائيل والحكومات الحامية لها من قبل المنظمات الحقوقية والفاعلين الحقوقيين المدعومين من شرائح واسعة من قوى سياسية ومجتمعية ونقابية وأكاديمية وطلّابية في أغلب بلدان العالم، ممّن يشاهدون يومياً مقدار التوحّش في القصف والتدمير والتهجير والتعذيب الذي يطال أكثر من مليوني فلسطيني في رقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها الـ363 كيلومتراً مرّبعاً، هي نفسها المتعرّضة لحصار منذ العام 2007 تبعته أربع حروب واسعة، وهي نفسها التي تُبرز التقارير العسكرية أن لا قوّة تدميرية أصابت منطقة في العالم في العقود الأخيرة، خلال فترة قصيرة، على نحو ما أصابتها في بضعة أسابيع.
في كل الأحوال، ستستمر المعركة ضد جرائم إسرائيل على مختلف الجبهات السياسية والقانونية والثقافية. ولا شكّ أن كل جولة من جولاتها ستُحقّق بعض الإنجازات أو الخروقات التي يُمكن أن يُبنى عليها، رغم كمّ المصاعب والعقبات والأهوال، ورغم تأخّر المحاكم عامةً وبطئها في التحقيق والتحرّك والمقاضاة…
*كاتب وأكاديمي لبناني
“القدس العربي”