خلال عام مضى من تاريخ ثورة سورية ما بين مارس/ آذار 2023 ومارس 2024، اعترى المشهد السوري الكثير من التحوّلات، لعل أبرزها ازدياد وتيرة التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد، الذي واجه تحدياً ثورياً جديداً وهو الحراك المجتمعي في محافظة السويداء، والذي تبنّى شعارات الثورة الأولى ودعا إلى تطبيق القرار الدولي 2254 وتحريك العملية السياسية التي لم تشهد أي تطور خلال عام مضى.
ولعل إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية في قمة جدة التي عُقدت في مايو/ أيار الماضي، أهم معلم من معالم المشهد السياسي السوري خلال 13 عاماً من الثورة حتى اليوم. وكان الزلزال الذي ضرب الشمال السوري في فبراير/ شباط الماضي ذريعة لأغلب الدول العربية للتطبيع مع النظام السوري وإعادة تعويمه مرة أخرى، على الرغم من أن الأسباب التي أدت إلى القطيعة العربية مع النظام والتي بدأت أواخر عام 2011، ما تزال قائمة.
في مقدمة هذه الأسباب رفض هذا النظام أي مقاربة سياسية للقضية السورية لا تقوم على أساس بقاء بشار الأسد ونظامه في السلطة. واعتبرت المعارضة السورية في حينه قرار إعادة النظام إلى الجامعة العربية “يمثل تجاوزاً لجرائم النظام وضربة للشعب السوري الثائر، وتجاهلاً لمطالبه بالتغيير”.
وعلّق رئيس هيئة التفاوض عن المعارضة السورية بدر جاموس على القرار في حينه، بالقول إنه “تجاهل واضح لإرادة السوريين”. وأضاف: “نعتقد أن ما حدث هو قتل للعملية السياسية، ودفع للشعب السوري لمواصلة ثورته المحقة حتى تحقيق حقوقه المشروعة، وتجاهل كامل لصوت الشعب السوري لحساب المصالح بين الدول”.
تطبيع عربي بعد 12 عاماً من الثورة في سورية
ويبدو أن الدول العربية كانت تراهن على تغيير نظام الأسد سلوكه حيال العديد من الملفات، لعل أبرزها ملف تهريب المخدرات إلى الأردن ومنها إلى الدول العربية، إلا أن الوقائع أثبتت فشل هذا الرهان، وهو ما دفع الأردن إلى استخدام القوة لضرب مخابئ ومستودعات تجار المخدرات التابعين للنظام في الجنوب السوري مرات عدة.
كما أن النظام السوري ما يزال على تعنّته حيال العملية السياسية ويرفض أي مقاربة للقرار الدولي 2254، ولم يساعد الأمم المتحدة في عقد جولة تاسعة من اجتماعات اللجنة الدستورية المتوقفة منذ عام 2022، مختلقاً مع الجانب الروسي الكثير من الذرائع والحجج للحيلولة دون تحرك هذا المسار، من قبيل أنه لا يمكن اعتبار مدينة جنيف السويسرية “منصة محايدة” لعقد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية.
وكانت عودة النظام إلى الجامعة العربية “مجانية” من دون الحصول على التزامات واضحة منه بشأن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، والكشف عن مصير عشرات آلاف المعتقلين، وتحريك العملية السياسية المعطلة لحل الأزمة، على أساس القرارات الدولية أو بما ينسجم معها.
كما لم تؤد عودة النظام إلى الجامعة العربية إلى تقليص النفوذ الإيراني في سورية، بل على العكس تماماً شهد العام الماضي أول زيارة لرئيس إيراني إلى سورية منذ تفجر الأزمة السورية في ربيع عام 2011، في تأكيد على أن طهران خلقت الكثير من الوقائع على الأرض لا يمكن تجاوزها، سواء بتطبيع عربي مع النظام أو من دونه.
سالم: العام الماضي شهد تراجعاً في الاهتمام بالملف السوري من قبل الدول المعنية والفاعلة
ويرى مدير وحدة الدراسات في مركز “أبعاد” محمد سالم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن أهم ما ميّز المشهد السوري خلال العام الماضي من عمر الثورة “هو الجمود السياسي”، مشيراً إلى أن هذا الجمود ليس جديداً “بل هو موجود منذ بداية مساعي الأمم المتحدة لتحقيق الحل السياسي، حتى لو كانت هناك مفاوضات شكلياً مستمرة”.
ويشير سالم إلى أن العام الماضي “شهد تراجعاً في الاهتمام بالملف السوري من قبل الدول المعنية والفاعلة”، لافتاً إلى أن “التظاهرات والاضطرابات في مختلف مناطق سورية، من السويداء جنوباً إلى ريف دير الزور الشرقي في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى مناطق هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في شمال غربي سورية كانت من المظاهر البارزة في المشهد”، مضيفاً: “هي دليل على عدم الاستقرار واستمرار الإشكاليات السياسية والحوكمية”. ويتابع: “كان التطبيع العربي مع النظام من معالم العام الماضي، إلا أنه فَقَد إلى حد ما زخمه بسبب عدم تفاعل النظام السوري مع ما طالبت به الحكومات العربية”.
وواجه النظام السوري خلال العام الماضي من عمر الثورة السورية تحدياً جديداً لم يكن ضمن حساباته، وهو الحراك الثوري في محافظة السويداء جنوب سورية، والذي بدأ في أغسطس/ آب الماضي وما يزال في ذروة زخمه السياسي والشعبي، ودخل دائرة الاهتمام الغربي. وكان النظام يعتقد أن مناطق سيطرته باتت عصيّة على أي حراك شعبي ضده بسبب الوحشية التي مارسها ضد الثورة في سنواتها الأولى، إلا أن محافظة السويداء أكدت من خلال حراكها أن أسباب الثورة ما تزال مستمرة، فكسرت جمود المشهد وأعادت إلى واجهة الحدث مطالب أغلب السوريين في تحقيق تغيير سياسي عميق يطاول بنية النظام الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
وقطع الحراك كل الجسور مع النظام، إذ أغلق مقرات حزب “البعث” الحاكم، ولجم الأجهزة الأمنية التي وجدت نفسها عاجزة أمام حراك لا يمكنها إلصاق التهم الجاهزة به نظراً للطبيعة السكانية لهذه المحافظة التي يشكل السوريون الدروز غالبية سكانها.
وبدأ الحراك اعتراضاً على سوء الأحوال المعيشية وارتفاع الأسعار، إلا أنه سرعان ما تحوّل إلى حركات احتجاجية وتظاهرات حاشدة، خصوصاً في مدينة السويداء مركز المحافظة، رفعت شعارات الثورة الأولى، ما عُدّ تجديداً لهذه الثورة واستمراراً طبيعياً لها، خصوصاً أن الشمال السوري رحّب بهذا الحراك، وشهد تظاهرات حاشدة تأييداً له. كما أن وقوف مشيخة العقل لدى الدروز السوريين إلى جانب هذا الحراك منحه الكثير من القوة، وهو ما أربك النظام الذي فشل في تطويقه من خلال الفعاليات الاجتماعية المرتبطة به.
يرى المحلل السياسي أحمد القربي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن استمرار الجمود “أهم توصيف للمشهد السياسي السوري في العام الماضي”، مضيفاً أن هناك مراوحة في المكان. ويشير إلى أن العديد من التطورات طرأت داخلياً على المشهد، منها الحراك الثوري في السويداء واستمرار عدم الاستقرار في درعا، فضلاً عن الجمود الميداني الذي صبغ الجبهات في الشمال السوري، مضيفاً: المتغير الوحيد هو موجة التطبيع العربي مع النظام، وما عدا ذلك بقيت الأمور على حالها بسبب متغيرات دولية وإقليمية أبرزها استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.
القربي: التطبيع العربي هامشي لأنه مبني على مقاربة أمنية فقط ولا يحمل أي بوادر حل سياسي
وبرأي القربي، فإن التطبيع العربي “هامشي لأنه مبني على مقاربة أمنية فقط ولا يحمل أي بوادر حل سياسي، كما أن محركات النزاع ما تزال موجودة ومنها عدم عودة اللاجئين وعدم وجود حل سياسي”. ويتابع: لا يوجد أي منجز نتيجة التطبيع العربي مع النظام، حتى أن مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، التي أطلقها الجانب الاردني فشلت إلى حد كبير، مستدركاً أن الملف السوري يعاني جموداً هشّاً مبنياً على توافقات مرحلية يمكن أن تنهار في أي لحظة.