لسنا مضطرّين إلى تصديق كل البيانات والإفادات والتصريحات، في الشأنيْن، العسكري والسياسي، التي أسرفوا في طهران وإسرائيل في بثّها ونشرها، منذ انطلقت، الليلة قبل الماضية، أولى المسيّرات والصواريخ من الأراضي الإيرانية باتجاه أهدافٍ في دولة الاحتلال، بشأن أعداد هذه الأسلحة وأنواعها وما أصابتْه وما لم تُصِبه، وإسقاطِها وسقوطِها، ليس فقط لأن الكذب يكثُر في الحروب (والانتخابات)، على ما قال بسمارك، وإنما أيضاً لأن الأدْعى إلى التفكّر فيه حزمة الرسائل التي اشتمل عليها هذا الهجوم الإيراني، في أنه سابقةٌ أولاً، وفي أنه مضبوطٌ جدّاً، فلم يُحدِث آثاراً موجِعةً في إسرائيل، فضلاً عن الأهمية الخاصّة لإشهار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أمس، أن بلادَه كانت قد أبلغت الولايات المتحدة أن عمليّاتها ستكون محدودةً في إطار الدفاع المشروع عن النفس. يُضاف إلى هذا كله، وغيرِه، ما أذاعته طهران من أقوالٍ توحي بأنها تكتفي بالذي أقدمت عليه، ردّاً على استهداف إسرائيل القنصليّة الإيرانية في دمشق أوائل إبريل/ نيسان الجاري، وقتلها ضبّاطاً إيرانيين وازنين في الحرس الثوري، وإن أردفت المراجع الإيرانية قولَها هذا إنها ستضرِبُ ثانيةً إذا ما ارتكبَت إسرائيل “حماقةً” أخرى.
لم يكن ممكناً لطهران غير أن تفعل شيئاً ضد دولة الاحتلال، عسكرياً من نوعٍ ما، وبنفسِها لا بأيدٍ حوثيّة أو بصواريخ من حزب الله، بعد أن رفعت مستوى لغتها في التهديد والوعيد عقب ضربة القنصلية التي مثّلت عدواناً مشهوداً على “أرضٍ إيرانية”، وإنْ رمت في الأثناء، للولايات المتحدة تعييناً، صيغةً تساعدها على ضبط نفسها، كما طولبت من غير عاصمةٍ أوروبيةٍ وعربيةٍ وإسلاميةٍ، أن يُصدر مجلس الأمن إدانةً للفعلة الإسرائيلية التي كانت انتهاكاً معلناً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961). ولكن العُرف الأميركي أن إسرائيل في حصانةٍ من أيِّ انتقادٍ في المجلس الذي ينزع عنه الفيتو الأميركي التقليدي وظيفتَه في حفظ السلم والأمن في الشرق الأوسط. لم يكُن ممكناً لطهران غير أن تهبِط بنفسها عن شجرةٍ صعَدت إليها، فكانت السابقة التي لا يجوزُ التبخيس من قيمتيْها، السياسية والعسكرية، كما يزيدون ويعيدون من “يحشُرون” إيران في فهمٍ خاصٍّ بهم، ولا يخصّها. وأول أوجه القيمة العسكرية لمسار الصواريخ والمسيّرات من الأراضي الإيرانية إلى قاعدةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ في النقب (هكذا قال الطرفان) أن صنّاع القرار في طهران لا يعتنقون كظْم الغيظ والصبر الاستراتيجي والتهديد اللفظي إيّاه عقيدةً مطلقةً، بل يحدُث أن يسلُكوا خياراتٍ أخرى، تنضبط في طوْرٍ أوّل، ثم قد لا تنضبط في طوْرٍ آخر إن لزم الحال.
يأتي إلى البال أيضاً أن إيران لا تُبادر إلى سابقة 14 إبريل من أجل غزّة والفلسطينيين، وإنما عندما يفيض الكيلُ في الاعتداءات الإسرائيلية عليها، فالحوثيّون في البحر الأحمر وحزب الله في الجنوب اللبناني يؤدّون ما في مقدورهم إسناداً لأهل القطاع المنكوبين، ولحركة حماس. كما أنها تُبلغ العالم أنها، عندما تُزاول “دفاعها المشروع عن النفس” تُخطر المصريين والعراقيين والأردنيين وغيرهم، من أجل أن تحتاطَ أجواؤهم ومطاراتُهم، كما أنها لا تستهدف مدنّيين إسرائيليين، وإنما موقعاً عسكرياً (قالت إن صواريخ ضربة القنصليّة انطلقت منه)، وكأن طهران تذكّر بأخلاق الحروب، وتُبلغ الولايات المتحدة أن عليها أن تُعلم حليفتَها بأنها لا تُمانع في خوض مواجهةٍ في هذا الإطار، إذا ما تدحرَج “التصعيد” تالياً إلى ملعب حربٍ لا تريدُها في الأساس، ولم يقصد هجوم الليلة قبل الماضية الذهابَ إليها. وثمّة، من قبلُ ومن بعد، مياه الخليج ملعباً موازياً، كما دلّت عليه واقعة خطف سفينةٍ برتغاليّة العلم يملكُها إسرائيلي، يوم الجمعة الماضي.
لا مفاجأة في فائض البراغماتيّة التي اتّصفت بها طهران، عندما باشرَت تبادُل رسائل مع واشنطن، عبر أنقرة (وغيرها)، بشأن سابقة المسيّرات والصواريخ إلى قاعدة النقب. ولا مفاجأة في الحدود التي رسمتْها لهذه السابقة، فالمُراد الذي توخّته أن تعرف دولة الاحتلال أن الكيْل إذا فاضَ بمقدارٍ لا يعني أنه سيفيضُ ثانياً وثالثاً بالمقدار نفسه، وعندها قد تكون المفاجآت.