يعتبر كتاب الباحث الهولندي رودولف بيترز أستاذ الشريعة في جامعة أمستردام، واحداً من أهم الكتب ربما، التي صدرت في السنوات الأخيرة، وتناولت بالتفصيل تاريخ التعذيب والعقاب في المدينة الإسلامية. إذ تمكن مؤلف الكتاب من تقديم قراءة تاريخية دقيقة لتاريخ العقوبات، التي نفذت داخل هذه المدن مثل قطع اليد والرأس، أو الجلد والرجم، وتطبيق حدود الزنا، وغيرها من التفاصيل المتعلقة بالحياة اليومية.
واختار المؤلف أن يتبع طريقة تطبيق القوانين الإسلامية منذ القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن العشرين، لكون هذه الفترة تتوفر على سجلات شرعية واسعة، ما يتيح لنا معرفة طريقة تطبيق العقوبات وحدودها بشكل أفضل. يبين بيترز من خلال قراءته لسجلات المحاكم الشرعية، أن عقوبة تطبيق قطع اليد أو الرجم، لم يعمل بها كثيرا منذ القرن السادس عشر الميلادي وما بعده في الحواضر الإسلامية.
شرعية تعذيب في التاريخ الإسلامي
يعتقد بيترز أن فقهاء الحنفية العثمانيين، لم يجمعوا على قول واحد في ما يتعلق بشرعية التعذيب. فما كان الاعتراف المأخوذ تحت التعذيب في الدعوى المقامة أمام القاضي ليقبل كبينة معتبرة، لأنه يوضع في باب الاعترافات المأخوذة بالإكراه. وهذه القاعدة منصوص عليها في الفتوى التي كتبها أبو السعود أفندي شيخ الإسلام العثماني «إذا أقر شخص بشيء لأنهم توعدوه بقولهم: أقر وإلا أوسعناك ضربا، وإذا اعتقد أنهم سيفعلون ما توعدوه به إن لم يقر، فإقراره باطل». توضح هذه الفتوى قوة المجتمع الذي عاش فيه المواطن المسلم آنذاك. ولا ينفي بيترز أن التعذيب ظل مستمراً في بعض الحالات، خلافا للفتاوى الدينية، مع ذلك نرى أن هذه العقوبات لم تشرعن، كما فعلت عناصر «داعش» قبل سنوات في سياق تبريرهم لعنفهم الشديد تجاه المدنيين في سجونهم، أو في الشوارع، بل نرى أن معظم الفقهاء ظلوا متمسكين بمواقفهم، وظل التعذيب يمارس بمقتضى رؤية أصحاب القرار في السلطة.
وكان الجلد بالسوط والضرب بالعصا، أكثر العقوبات شيوعا في الإمبراطورية العثمانية. وعادة ما ضرب الجاني على ظهره أو على باطن قدميه. وعرفت العقوبة الأخيرة باسم الضرب بالفلقة. وكانت أحكام الجلد تنفذ داخل قاعة المحكمة فور صدورها. كما اختلف عدد الضربات التي حددها القاضي باختلاف خطورة الجناية. وعلى الرغم من وجود إحدى الفتاوى التي تلزم الدولة بنصف دية القتيل، إذا جلد أكثر من مئة جلدة (ما ينطوي على مخالفة الجلاد لحكم القاضي) فإن الرحالة الغربيين، يروون لنا تلقي الجناة لمئات الجلدات في بعض الحالات.
وعلى صعيد قطع الأيدي، فقد فرض القانون الجنائي العثماني قطع اليد اليمنى عقوبة لمن تكررت منهم سرقة أموال الغير، أو مهاجمتهم بالسكين. لكن الواقع يظهر أن الجناة أرسلوا من النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى (سفن القادس) بدلاً من قطع أيديهم. ولا يكاد يذكر القطع حدا للسرقة في سجلات المحاكم المنشورة وجوامع الفتوى العثمانية، وهو ما يدل على أنها لم تكن من العقوبات التي كثر تطبيقها. كما نرى في سجلات القضايا المتعلقة بالزنا، أن عقوبة الرجم لم تطبق إلا ما ندر، وهذا ما نراه مثلا في الحكم الذي صدر في إحدى القضايا المصرية في القرن السابع عشر» أقر رجل طواعية بأنه زنى ذات مرة قبل زواجه وطلب من القاضي أن يعاقبه، فراح القاضي يحقق في سلامة عقل الرجل بسؤال من يعرف عنه. واختبر عقله بطرح بعض الأسئلة البسيطة عليه.. وأعطاه أخيرا فرصة لإعادة النظر في دعواه. ثم حكم عليه لما أصر».
ونرى أن الفقهاء المسلمين في الفترة التاريخية (بعد القرن السادس عشر) كانوا يطبقون معايير غاية في الصرامة لثبوت جريمة الزنا. إذ اشترطوا وجود أربعة شهود بدلاً من شاهدين، ووجوب الإقرار بوقوع الحادثة أربع مرات في أربعة مجالس مختلفة، وأن يكون الشهود قد شاهدوا ما حدث بتفاصيله، وكل من يثبت أنه قد تراجع في شهادته، أو بدت شهادته غير واضحة. وقد حاول الفقهاء من خلال هذه الشروط، جعل تطبيق العقوبات صعباً، وبقاء العقوبات نصية فقط.
معمر القذافي وقطع اليد
كان الناس عند إعدام أي شخص، يحضرون إلى مكان الإعدام، وكثيرا ما أجبر المجرمون على السير في الشوارع وهم مكبلون بالأصفاد، وعليهم نصف ثيابهم، وكانت تترك جثة القتيل لبعض الوقت في مكان قتله. يعتقد المؤلف أنه مع قدوم القوى الأوروبية بدا المشهد يتغير. فقد تنامى في الدول الغربية البغض للعقاب البدني لاسيما لعقوبات التمثيل ببدن المعاقبين، ولذلك عملوا على الحد منها بعد سيطرتهم على الهند مثلا. ولذلك نرى أن عقوبات القطع والرجم قد هجرت في المدن العثمانية في القرن التاسع عشر، دون صدور أي مرسوم حكومي صريح بهجرها، كما ألغيت عقوبات مثل السوط والضرب بالعصا بموجب مرسوم رسمي في الإمبراطورية العثمانية سنة 1858 وفي مصر 1861. في مقابل هذا التراجع للعقوبات، أو اختفائها تقريبا مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت «داعش» تعود في عام 2014 لتطبقها بشكل حرفي، دون أن تراعي مثلا التطورات والتغيرات الفقهية والقانونية، التي عرفتها بلدان مثل، سوريا والعراق منذ القرن السادس عشر، إلا أن اللافت في كتاب بيترز، هو أنه يكشف لنا أيضا العودة لتطبيق قطع اليد أو الرجم، هي أقدم من ظهور «داعش» في المنطقة، وأن بعض الدول العربية الاستبدادية، والإسلامية الأخرى، قد لعبت دورا سلبيا في هذا الاتجاه، وفي إعادة تنفيذ بعض هذه الأحكام من جديد.
في عام 1972، فاجأ معمر القذافي العالم عندما أعلن عن العودة للأخذ بالأحكام الشرعية في السرقة، بحيث جعل عقوبتها القطع. وقد حار مفكرو العالم الإسلامي والعربي في هذا الإعلان، ذلك أن العودة للتشريع الإسلامي، لا تواكب نظريات التحديث. وفي سياق تفسير المؤلف لهذه العودة، يرى أنه بعيد الخمسينيات من القرن العشرين، أمست القوانين الحديثة عرضة للهجوم المتوالي عندما اشتد عود الحركات الإسلامية. وكانت السمة الرئيسية التي تتصف بها الدولة الإسلامية في قناعتهم هي تطبيق الشريعة في أبواب الحياة كافة، بما في ذلك القانون الجنائي بالطبع. وأصبح الأخذ بالشريعة التقليدية المطلب الجماهيري، ولذلك وجدت الأنظمة التي تولت السلطة نتيجة الانقلابات العسكرية (كما في حال القذافي) أن الطريقة الأفضل لتثبيت توليها الحكم يكون من خلال مسايرة هذه المطالب، والدعوة لتأسيس وتطبيق قوانين الشريعة القديمة. ومثال ذلك ما حدث في مصر أيضاً، فعلى الرغم من الإصلاحات القانونية التي عرفتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، حاولت الدولة تبني قوانين إسلامية تقليدية للدفاع عن نفسها ضد الهجمات الأيديولوجية الإسلامية المعارضة لها، وقد ألقيت هذه المقترحات في سلة المهملات رسميا في ثمانينيات القرن الماضي، بعد اغتيال الرئيس أنور السادات.
كما بدأ نظام جعفر النميري، الذي استولى على السلطة في السودان سنة 1969 بالسير خلال السبعينيات في مسار أكثر تمسكا بالإسلام بقصد تقوية قاعدة سلطته، وقد أدى ذلك في عقوبات السرقة وقطع اليد، إلى أن تتوسع أكثر من القواعد التي أشار اليها الفقهاء التقليديون، كما أصبح الشروع بالزنا من الجنايات التي يعاقب عليها القانون. وبات يكفي لتأكيد وقوع الزنا، أن يرى الناس الرجل والمرأة معا في مكان عام، ويعجز الرجل عن إقامة البينة على زواجه منها شرعا، أو كونها من محارمه. وقد اشتد اقبال القضاء السوداني على تنفيذ العقوبات البدنية من سبتمبر/أيلول 1983. فنفذ أول حكم قضائي بالقطع في التاسع من ديسمبر/كانون الأول من تلك السنة. ونفذ سنة 1984 ما لا يقل عن خمسة وستين حكما بالقطع، كان من بينهم عشرون شخصا قطعت يدهم اليمنى ورجلهم اليسرى. وعادة ما نفذت هذه العقوبات في أماكن عامة، وتحت إشراف طبيب متخصص. أطيح بنظام النميري في أبريل/نيسان 1985 بانقلاب عسكري، إلا أن الانقلاب الجديد شد على ساعد الجبهة الإسلامية، فأقيمت الحدود مرة أخرى، وهو ما يظهر أن الحديث عن التراث بمعزل عن تطورات المئة سنة الأخيرة في بعض المدن العربية، قد لا يكفي لفهم العنف والوحشية التي جاء بها الجهاديون لاحقاً.
كاتب سوري
- القدس العربي