(ويلسون المغفل، مارك توين)
في صحراء نيفادا، وبالقرب من هذا الجنوب الذي يشير إليه الكاتب الأميركي مارك توين، كان من المزمع أن ينتصب مجسم كبير من الألياف الزجاجية لقطعة من بطيخة مشقوقة بارتفاع 2.5 متر وطول 4.25 متر، ومكتوب عليها، “من النهر إلى البحر”. أعلن عن هذا العمل الفني على الموقع الألكتروني لمهرجان “بيرننغ مان” الشهير، والذي يعقد سنوياً في صحراء “بلاك روك” جنوب غرب الولايات المتحدة، بعدد من الحضور يكاد أن يقارب السبعين ألف. المهرجان الفني/ الحفل البوهيمي الممتد بطول أسبوع، لا يقدم برنامجاً مسبقاً، بل يتيح للمشاركين بناء أعمالهم الفنية وإطلاق فعالياتهم وحفلاتهم بشكل عفوي ومتزامن. وذلك اقتداء بمبادئ المنظمين المعلنة، “الإدماج الراديكالي، التهادي، نزع التسليع، والاعتماد الراديكالي على الذات، الجهد الجماعي، المسؤولية المدنية، وعدم ترك أي أثر، والمشاركة، والفورية”.
قبل أن يصبح البطيخ شعاراً لفلسطين، كان رمزاً لتحرر من نوع آخر بعد الحرب الأهلية الأميركية. في الولايات الجنوبية، قام الكثير من العبيد المحررين بعد إلغاء الرق، بزرع أراضيهم الخاصة بالبطيخ لبيعه، كونه محصولا-نقديا مجزيا. بذلك اصبح البطيخ بالنسية للأميركيين الأفارقة رمزاً للتحرّر والاعتماد على الذات، لكن وبالنسبة للأغلبية البيضاء كان علامة تهديد للوضع القائم وتراتبياته العرقية. سرعان ما أصبحت البطيخة جزء من التنميطات العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة، بوصفهم كسالى وبعقول بسيطة كل ما يبهجهم هو قليل من الراحة وبطيخة. بين الكثير من الكاريكاتورات الساخرة لسود يأكلون البطيخ وعلى وجوهم ابتسامات مبالغ فيها، وأغاني تنميطية مثل “الزنجي يحب بطيخة ها ها ها” لهاري براون، كان البيض العنصريون يرفعون قطعاً من البطيخ في تظاهراتهم ضد سياسات إدماج الأميركيين الأفارقة.
وصل البطيخ إلى الأميركيتين بواسطة الغزاة الأسبان والبرتغاليين بعد “الانقلاب الكولومبي”، لكن قبلها كيف وصل البطيخ إلى أوروبا نفسها؟
العام 2004، أعلن عن العثور عن أقدم بذور للبطيخ بعمر أكثر من 5000 عام، في منطقة الحفريات ما قبل التاريخية الشهيرة “وان موهي جاج” في الصحراء الليبية، هناك حيث عثر أيضاً على مومياء جبال أكاكوس المحنطة والتي تعود إلى أكثر من 5600 عاماً، مما يجعلها أقدم بألف عام من أقدم مومياء محنطة في مصر القديمة. حتى وقت قريب، كان يعتقد أن سلالة البطيخ البرية الأقرب صلة بالبطيخ المستأنس الذي نعرفه اليوم، تعود إلى شمال السودان. وبحسب النقوش على جدران واحدة من المقابر الفرعونية، فإن البطيخ كان يستهلك كتحلية في مصر القديمة قبل 4360 عاماً.
في مقال بالإنكليزية صادر في العام 2015 على موقع “ناشونال جيوغرافيك”، بعنوان “خمسة آلاف عام من التاريخ السري للبطيخ”، يحيل كاتب المقال إلى ورقة أكاديمية واحدة ويعتمد عليها بالكامل في نصه. الورقة من تأليف هاري باريس، خبير البستنة في منظمة البحوث الزراعية في إسرائيل. المقال كما الورقة البحثية، ملتزم بالتتبع الأركيو-نباتي والتاريخ اللغوي للبطيخ، لكن مع إزاحة بسيطة لعبرنة الثمرة المذكورة في العهد القديم، فالبحث الاتيمولوجي عن الجذور اللغوية لسلالات البطيخ، لا يلتزم فقط بالمركزية الغربية المعتادة في بحث الجذور اللغوية في القواميس اللاتينية واليونانية، بل يضيف إليها بحثاً قصيراً في أصولها العبرية وفي النص المقدس اليهودي. وفي قسم من الورقة البحثية عن أكتشافات البطيخ الأركيولوجية يضيف إلى عنوانه “البطيخ في مصر والسودان وليبيا وأوروبا” و”إسرائيل”.
ثمة نظريتان في شأن انتقال بذور البطيخ من شمال إفريقيا إلى أوروبا. الأولى هو أن الأندلس كانت نقطة العبور وهي النظرية الأرجح أما الثانية والتي تستند إلى أدلة معتبرة فتقترح أن البطيخ زرع في جنوب إيطاليا وانتقل من هناك إلي بقية القارة. لكن الأكيد أن أول صورة للبطيخ مسجلة في نص أوروبي تعود لكتاب “تاكوينوم سانيتاتيس” من العصر الوسيط، والمعروف أيضاً باسم “تاكوينوم” وهو الترجمة اللاتينية لكتاب “تقويم الصحة” لابن بطلان الصادر في القرن الحادي عشر الميلادي، والمهدى لثاني الملوك الايوبيين، الملك الظاهر، ابن صلاح الدين.
يحتوى موقع “أمناء المكتبة” التابع للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، على نص واحد باللغة العربية يتناول موضوع الفاكهة. ولسبب ما، على الأغلب وليد الصدفة، تتناول المقالة البطيخ في الأمثال الشعبية العربية، ويستشهد فيها بالإسقاطات السياسية للبطيخ في عناوين مقالات صحفية لكتاب فلسطينيين وتصريحات لسياسيين عرب في الكنيست الإسرائيلي. ومن بين ما يشير إليه المقال، هو منافسة لمصر في تصدير البطيخ قبل العام 1948، ويستشهد المقال في هذا السياق بخبر منشور في جريدة “الصراط” الصادرة في يافا، بتاريخ الأول من أيار العام 1935 (يمكن تحميل أرشيف الجريدة بيسر من على موقع المكتبة الإسرائيلية). دون قصد أو ربما عن قصد، يذكرنا المقال أن الأرشيف الصحافي الفلسطيني، كما بطيخ يافا، أصبح إسرائيلياً.
(نصب تذكاري على طريق دنيبرو-خيرسون)
تتصدر الصين إنتاج البطيخ عالمياً، بإجمالي سنوي يقرب إلى 80 مليون طن، أي أكثر من عشرين ضعف إنتاج الدولة الثانية في الترتيب العالمي وهي تركيا. هكذا، من حيث الإنتاج يكون البطيخ ثمرة صينية بلا منازع.
البطيخ يؤكل كله، البذار تحمص ويمكن قزقزتها كبذور أو تطحن قلوبها وتحول إلى دقيق، أما القشور السميكة فيتم تخليلها في مناطق عديدة حول العالم وبالأخص في روسيا وأوكرانيا وجورجيا والكثير من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. حمل تاتار القرم بذور البطيخ ونشروها في أنحاء الإمبراطورية الروسية منذ القرن الثامن عشر. وتعد البطيخة شعاراً لإقليم خيراسون الأوكراني الواقع في منطقة القرم، حيث كان يزرع نصف الإنتاج الأوكراني من البطيخ حتى الغزو الروسي الأخير للإقليم. مع استعادة القوات الأوكرانية لمدينة خيراسون في عام 2022، صارت البطيخة رمزا سياسياً للتحرر الأوكراني، في نوفمبر من العام نفسه وعند وصول الرئيس الأوكراني زلينسكي إلى مدينة خيراسون المحررة، صرح لوسائل الإعلام مازحاً: “جئت إلى هنا لأنني أردت بطيخة”. لاحقاً نشر رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شيمهال في موقع تويتر صورة له يحمل بطيخة، وقامت عدة مؤسسات أوكرانية من بينها هيئة البريد وفريق دينمو كييف لكرة القدم بتغيير شعاراتها مؤقتا ليضم صورة لبطيخة. وعلى الخلفية نفسها، في مؤتمر “كوب 2022” في مدينة شرم الشيخ، تصدر الجناح الأوكراني العلم الوطني وبطيخة.
تختلف بطيخة خيرسون والبطيخة الفلسطينية في عدة أمور، الأولى بطيخة كاملة والثانية مشقوق قلبها الأحمر، والأولى يمكن رفعها في المحافل الدولية دون مشكلة.
قبل أيام، أعلن “مهرجان بيرننغ مان” عن إزالة مجسم بطيخة “من النهر إلى البحر” وقام بمحو صورتها من الموقع الإلكتروني للمهرجان، وذلك بعد تلقيه شكوى موقعة من أكثر من ألف شخص، تعترض على خطاب الكراهية المتضمن في هذا العمل الفني.
- المدن