مع بدء انتخابات البرلمان الأوروبي يوم الخميس في 6 حزيران 2024 تثور لدى المرء أسئلة حول الوضع السوري المأساوي الراهن، وتبدأ المقارنات والمقاربات مشروعةً كمحاولةٍ للخروج من هذا المستنقع الرهيب الذي يبدو نفقًا مظلمًا بلا نهاية.
لعلّ حلم الوصول إلى انتخابات في سوريا بات بعيد المنال على الأقل في المرحلة الراهنة، فخطوات التطبيع العربي والإقليمي مع نظام الأسد لا تبشّر بالخير، خاصّة وأنها تُقابل بغضّ نظرٍ أوروبي وتشجيعٍ ورعايةٍ أميركية.
ليس أدلّ على ذلك من رفع البيت الأبيض مسوّدة قانونٍ يشدد الخناق على نظام الأسد من حزمة قوانين رئيسية في اللحظات الأخيرة قبل التوقيع عليها من قبل الرئيس بايدن، كما أنّ مشاريع التعافي المبكر وأطروحات عودة اللاجئين الطوعية، أو بالأحرى دفعهم للعودة، بدأت تشقّ طريق التطبيع الدولي الذي سيأتي عاجلًا أم آجلًا على ما يبدو.
يغدو المشهد لبعض المراقبين مغايرًا لما يظهر عليه، فهم يرون أنّ هذا المسار هو بداية طريق الحلّ في سوريا، وأنّه واعدٌ بالانتقال السياسي إلى عصرٍ جديد من خلال المشروع العربي الذي تقوم على قيادته المملكة العربية السعودية. لكن هذه الطريقة في رؤية الأمور وتحليلها لا تعدو كونها طريقة رغبويّة إنكارية تحاول إلباس هذا المسار لبوسًا لا يناسبه. فالمؤشرات على عدم قابلية هذا النظام للإصلاح الداخلي أو التصالح مع محيطه الإقليمي كثيرة جدًا، فليس أيسر على المتابع من رؤية جوهر النظام من تحت القشور الزائفة التي يحاول تغطية سَوءته بها.
تحالف طريق التوابل محاولة أميركيّة جادّة لتعزيز نفوذها الذي بدأت تزاحمه قوى صاعدة لا يستهان بها.
إنّ فك الارتباط بالنظام الإيراني غير ممكن لديه على الأقلّ في المرحلة هذه، فالتغلغل الكبير والمتشعّب في بنية الدولة السورية بمفاصلها المختلفة خلال ثلاثة عشر عامًا منذ اندلاع الثورة السورية لا يمكن التخلص منه بسهولة حتى لو رغب الأسد وأزلامه.
كما أنّ بنية الفساد والقمع عصيّة على التغيير، فهي ليست عارضًا يمكن التعامل معه، إنها جوهرٌ قام عليه نظام الأسد الأول منذ بدايته عام 1970. أوضح ما يمكن الاستشهاد به مثالًا على استحالة تغيير طبيعة النظام، تحوّله إلى أكبر مصدرٍ في العالم لتصنيع وتهريب المخدرات باعترافات الدول الساعية للتطبيع معه. يحضُرُ المرءَ هنا المثلُ الدارجُ الذي يقول: (المي بتروب والعاهر ما بتوب).
منذ جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا بدأت ملامحُ عالمٍ متعدد القطبيّة تتضح أكثر فأكثر، وسقطت فكرة التعاون الاقتصادي بوصفه صمّام أمانٍ أوروبيًا مانعًا للحرب.
وجدت أوروبا نفسها مرّة أخرى أمام استحقاق كبير كذلك الذي أعقب صعود النازيّة والفاشية، وعادت الأسئلة الكبرى تطرقُ من جديد رؤوس السياسيين والمفكرين، فكيف يمكن أن نتغاضى عن خطر العقيدة التوسعيّة الروسيّة، وكيف لنا أن نبني اتحادنا على أسسٍ واقعيّة من الاستقلال عن التبعيّة للولايات المتحدة الأميركية، ومتى يمكن أن يكون لنا دورٌ سياسي وعسكريّ يتناسب مع مساهمتنا الحضارية في العصر الحديث من جهة، ومع حضورنا الجغرافي والبشري والاقتصادي من جهة ثانية؟
مقابل هذا تسعى روسيا للتوجّه شرقًا ونحو أفريقيا، وما حركة الانقلابات الأخيرة ببعيدة عن الأيدي الروسية، ولا وجود فاغنر، رغم مقتل زعيمها بين قوسين، عبثٌ لا طائل من ورائه. بالمقابل ظهر جليًّا أنّ المارد الصيني لم يعد مكتفيًا بما تفرضه عليه مفاهيم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تلك التي استجدّت بعد انهيار الكتلة الشرقية، وباتت السياسة الخارجية إحدى العناوين الكبرى التي يزاحم من خلالها بقيّة الدول لتثبيت أقدامه على الخارطة العالمية.
أهمّ المشاريع على الساحة الدولية طريق التوابل، وهو المشروع الذي أريد له أن ينافس مشروع الصين المعروف بمبادرة الحزام والطريق، التي هي ببساطة إعادة إحياء طريق الحرير التاريخي بشكل عصري حديث. إنّه التحالف الذي عملت الولايات المتحدة الأميركية على نسج خيوطه بأناة وصبر لمواجهة الصين.
يبدو تحالف طريق التوابل محاولة أميركيّة جادّة لتعزيز نفوذها الذي بدأت تزاحمه قوى صاعدة لا يستهان بها، ومن هنا كانت التسهيلات الكبيرة التي منحتها للهند في مجالات التكنولوجيا فائقة التطوّر خلال قمّة العشرين الأخيرة في نيودلهي.
تحاول الهمجية الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة الآن رسم حدود المنطقة بمساعدة لا يمكن إنكارها من قبل الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها الغرب عمومًا.
وبالرجوع إلى ما تمّ الإعلان عنه خلال تلك القمّة، نجد مشروعًا واعدًا لربط الهند بأوروبا عبر الإمارات والسعودية مرورًا بالأردن وإسرائيل عبورًا إلى قبرص وإيطاليا ومن ثمّ كل أوروبا.
على الضفة المقابلة كانت الباكستان إحدى أهمّ نقاط انطلاق مشروع الحزام والطريق عندما فتحت أمام الصين معبرًا مهمًا على بحر العرب. يظهر هذا كلّه حجم التداخل بين المشاريع العملاقة وتقاطع العلاقات الدولية والسياسة بكل أدواتها بما فيها الحرب مع الاقتصاد، فأين سوريا من هذا كلّه؟
في غفلة من الجميع، ربّما، جاءت معركة طوفان الأقصى لتغيّر المشهد الإقليمي بل والدولي كلّه. بات المشهد الآن مرتبطًا بالحرب الدائرة في الشرق الأوسط، فالموضوع أكبر من غزّة وفلسطين على هول معاناة أهلها ومأساتهم المستمرّة منذ سبعة أشهر وأزيَد.
تحاول الهمجية الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة الآن رسم حدود المنطقة بمساعدة لا يمكن إنكارها من قبل الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها الغرب عمومًا. لقد تخلخل النسق الإقليمي الثابت كلّه منذ اللحظة الأولى التي اخترق فيها مقاتلو حماس وغيرها من الفصائل جدار غلاف غزّة، وهنا بدأت جميع الأنظمة تعيد حساباتها سرًا وعلانية.
في هذا السياق المتداخل بين الاقتصاد والسياسة والأمن والتطرّف والإرهاب والجريمة المنظمة، تقبع سوريا في العتم تحت حكم قوى الأمر الواقع التي لا يمكن التوقع منها أن تتنازل عن امتيازاتها قبل أن تزيد حطام البلاد حطامًا.
لا المشاريع الاقتصادية الكبرى يمكنها المرور في منطقة محكومة من قبل عصابات، ولا السياسة يمكنها أن تنهض بالدولة دون اقتصاد قادر على المشاركة في الدورة العالمية للإنتاج والتوزيع. ما لا يدركه المطبّعون مع الأسد ونظامه أنّ سوريا ضائعة الآن بين تقاطعات السياسة الدولية وهاربة من المشاريع الاقتصادية الكبرى، فلا هي طالت بلح اليمن ولا عنب الشام، ولن تطول أيّ شيء ما دامت هذه المنظومة الاستبدادية تحكمها.
- تلفزيون سوريا