وضع ينطبق على حال الجزائر، ونحن نتكلم عن الإعلام بمختلف أنواعه المكتوب منها والسمعي البصري، بالإضافة إلى الكتابة الأكاديمية وكل أشكال الإبداع، بما فيه السينما والمسرح، التي مسها التضييق في السنوات الأخيرة، لتلتحق بحالة النصف هذه. كما جرى بعد منع عرض أفلام لمدة سنوات.. وصف لا ينطبق على الإعلام فقط بعد التحاق الوسائط الاجتماعية بهذه الحالة. التي أصبحت المطالبة داخلها بحرية كاملة أو قريبة من الكاملة مكلفة جدا، وقد تؤدي بصاحبها إلى السجن، كما هو حاصل هذه الأيام.
الوضع بالطبع لم يكن دائما بالشكل نفسه، فقد عرفت الجزائر مرحلة انفتاح نسبي بداية الاستقلال، أغلقت بسرعة بعد منع الأحزاب والصحافة المستقلة التي ينطبق عليها وصف صحافة حزبية أكثر، انطلق التحرش بها من قبل نظام بن بلة قبل الانقلاب عليه، ليتحول جو نصف الحرية نحو الغلق الكلي بعد وصول بومدين إلى الحكم لغاية منتصف الثمانينيات، حين بدأت تلوح في الأفق بوادر انفتاح إعلامي قبل أحداث أكتوبر/تشرين الأول، كانت جزءاً من لعبة سياسية أنجزتها قوى إصلاحية من داخل النظام. كما حصل مع تجربة أسبوعية «الجزائر الأحداث» في منتصف الثمانينيات، على سبيل المثال.
لم يرض عن حالة نصف الحرية الكل في الجزائر، لتكون الهجرة على شكل منفى ذاتي هي المخرج الأساسي أمام الكثير من الرافضين والمتحفظين
وضع تغير بشكل نوعي بعد أحداث أكتوبر 88، حين أصبح من الممكن الحديث عن حرية شبه كاملة لم تستمر للأسف إلا سنتين أو ثلاث سنوات ليجد الجزائريون أنفسهم وجها لوجه مع شبه حرب أهلية، بدل الديمقراطية التي وعدوا بها من قبل نخب فشلت في إصلاح نظامها السياسي. وهو الوضع نفسه الذي تكرر بعد الحراك الذي كان ينتظر منه الجزائريون الحرية والديمقراطية، فوجدوا أنفسهم أمام عملية غلق سياسي وإعلامي عادت بهم إلى ما كان سائد خلال مرحلة الحزب الواحد التي تعامل فيها النظام السياسي معهم بأساليب تتراوح بين القهر والزجر والإقناع، بواسطة المال العام – أقصد الإشهار العمومي – الذي يحتكره النظام، ليوزعه حسب منطق زبوني – بهدف مساومة الجزائريين عن نصف الحرية التي كانوا يعيشون في ظلها. جو نصف حرية كانت له تداعيات خطيرة جدا على نوعية الإبداع – لا أحب كثيرا هذه الكلمة التي تبتذلها الساحة الثقافية في الجزائر – وهو يحاول التكيف مع جو النصف هذا الذي لم يطالب بعض الإعلاميين به أصلا، مكتفين بأقل من النصف – لا أتكلم بالضرورة عن الشباب الذين لم يعرفوا منذ دخولهم عالم الشغل إلا الربع وليس النصف. تحول إلى «هابيتيس» لديهم، كما كان يقول السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو. مثل الكثير من زملائهم الأكبر سنا الذين لم يطالبوا بكامل الحرية ولم يناضلوا من أجلها، ما يعني أن مطلب الحريات بمختلف ميادين تجسيدها، لم يكن مطلبا جماعيا، مفروغا منه في حالة النخب الجزائرية. ذات المنبت الاجتماعي الفقيرة في الغالب وهي «تواجه» نظاما ريعيا يملك سيولة مالية كبيرة، عرف كيف يوظفها لشراء السلم الاجتماعي، وقبله ذمم هذه النخب. بالطبع لم يرض عن حالة نصف الحرية الكل في الجزائر، لتكون الهجرة على شكل منفى ذاتي هي المخرج الأساسي أمام الكثير من الرافضين والمتحفظين، تحولت إلى هجرة دائمة كما حصل مع الكثير من الوجوه التي رفضت التنازل عن حريتها، على غرار بعض الجامعيين والإعلاميين – أفكر في مفدي زكريا وجمال بن شيخ ومحمد حربي، وغيرهم كثير من الشباب الذين فضلوا الحرية التي منحتها لهم الجامعات الغربية، على البقاء في الجزائر للموت بشكل بطيء. هجرة توسعت لتشمل بعض المؤثرين على مستوى الوسائط الاجتماعية على قلتهم. الذين انتقلوا إلى مواقع معارضة شرسة. لم تعد تفرق في بعض الحالات بين معارضة النظام السياسي وتهديد سلامة البلد والمس بشرف المسؤولين، للزج بنسائهم وأبنائهم في صراع سياسي ليسوا طرفا فيه. ليظهر داخل المجال الإعلامي ذلك النمط من المنشقين وليس المعارضين، الذين عرفوا بنقديتهم الموسمية، في انتظار ما يمكن أن يحصلوا عليه من امتيازات – عينية في الغالب تعودوا على الاستفادة منها في الجزائر داخل النظام الريعي الذي تربوا بين أحضانه، يعملون المستحيل في التقرب من رجاله وأخذ الصور معهم كعربون قُرب يوظفونه يوميا لدى مؤسسات النظام المختلفة. أغرب ما في الموضوع هنا ونحن نتكلم عن هذا النمط من المنشقين أنهم غير راضين على من بقي داخل البلد من زملائهم القدماء الذين يطالبونهم.. بالصبر الجميل وتوسيع الأفق وعدم تهديد الوحدة الوطنية للبلد، ليتخصصوا مع الوقت في شتم النظام المغربي، كعربون تأييد للنظام السياسي الجزائري، الذي تقدمه نظرية المؤامرة الحاضرة بقوة في خطابهم كقلعة محاصرة في الإقليم، مواقف لا تساعد النظام نفسه ورجاله في الوصول إلى رؤية دقيقة للأوضاع الدولية توظف لصالح البلد، كما هو سائد داخل مؤسسات الإعلام الرسمي التي غزاها نوع غريب من المحللين والأكاديميين، حاضرين يوميا في البلاتوهات للإجابة بشكل تلقائي على أسئلة متفق عليها مع المنشطين، زادت في تنفير المواطن من الإعلام الرسمي، الذي تخصص في بث هذا الكلام الساكت. لن يساعد النظام السياسي بكل تأكيد في دعم حضوره الدولي، ولا تسمح بتحول هذا الإعلام إلى قوة ناعمة لصالح الجزائر والجزائريين.
إعلام وحياة ثقافية وأكاديمية لم تساعد البلد بالتالي على أخذ المكانة التي تستحقها دوليا عربيا ومغاربيا، رغم ما تزخر به من إمكانيات، راكمتها عبر تاريخها بعد المجهود الكبير الذي أنجزته الدولة الوطنية بعد الاستقلال، في ميدان التعليم – مهما كانت نوعيته ـ سمحت بتكوين بؤر علمية نوعية، بقيت من دون تثمين. فرضت على العاملين داخلها الهجرة إلى الخارج، نتيجة هذا الغلق الإعلامي والسياسي الذي فُرض على الجزائريين في مراحل عدة من تاريخ بلدهم، بنوعية النقاشات المغشوشة التي يولدها جو نصف الحرية هذا الذي يمنع من الذهاب إلى عمق القضايا من قبل الذين يفترض فيهم طرحها وإيجاد الحلول لها. لم يسمح للنخب بمختلف مشاربها بالتحاور في ما بينها حول مشاكل البلد المتنوعة، وإيجاد الحلول لها، كما يفعل الكثير من الشعوب، ليس في المجال السياسي فقط، الذي تتخوف منه السلطة كثيرا، بل حتى عندما يتعلق الأمر بالكثير من القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الملحة، التي بقيت معطلة منذ عقود، من دون حل، رغم الإمكانيات التي يتوفر عليها البلد، بفعل جو نصف الحرية الذي فُرض على الجزائر والجزائريين.
كاتب جزائري
- القدس العربي