في نص كتبه الأستاذ بشار حيدر ونشرته الجمهورية بعنوان «وحدة المظلوميات… في نقاش مع الجمهورية»، ينتقد الكاتب والأكاديمي اللبناني منشوراً للجمهورية على إنستغرام بعنوان «الاستبداد والاحتلال واحد»، ويخلص في نهايته إلى سؤال جوهري: «كيف يمكن للسوريين أن يتضامنوا مع الفلسطينيين دون أن يفقدوا تضامنهم مع أنفسهم؟». أحاول هنا أن أجيب على هذا السؤال عبر السجال مع نقد الأستاذ بشار حيدر، متفقاً معه على أنه «سؤال يحتاج إجابة» لا يقدّمها المنشور المذكور الذي لم تكن هذه وظيفته أصلاً.
في البداية، يبدو لي أن حيدر قد استنتج من منشور الجمهورية أشياء ليست واردة فيه ثم راح يناقشها، ولعلّ أكثرها غرابة قوله أن المنشور يشي «بأن هناك تَقاعُساً في تضامن السوريين مع الفلسطينيين». الجمهورية مؤسَّسة سوريّة في المقام الأول وكانت ذكرى الثورة السورية هي المناسبة، ولذلك جاء المنشور مُتحدِّثاً بلسانٍ سوري، لكن المنشور يقترح التضامن على السوريين والفلسطينيين وليس على السوريين وحدهم: «نحن السوريّون والفلسطينيون معاً… ولا معنى لأن نطلب التضامن معنا، إن لم نتضامن مع بعضنا».
هي إذن دعوة من موقع سوري للتضامن المُتبادَل بين المقهورين في سوريا وفلسطين وكل مكان، وهي لم تكُن من باب «شكوى قلة تضامن» على ما يوحي به نقدُ حيدر. والحال هذه، فإن النقاش الذي يمضي فيه الكاتب مُحاوِلاً إثبات أن السوريين هم الذين يحق لهم الشكوى من قلة التضامن يصبح غير ذي صلة، وفي ظنّي أنه يبقى غير ذي صلة على كل حال لأنه يقودنا إلى ما ينتقده حيدر نفسه في موضع آخر من مقاله، وأعني «المنافسة بين المظلوميتين» التي لا تنفع أياً منهما في شيء.
بعد ذلك يسألنا حيدر: «هل تشمل دعوة الجمهورية للتضامن القوى المسلحة المُقاوِمة لإسرائيل، أي حماس والجهاد وحزب الله؟»، ثم بصرف النظر عن إجابتنا يقول إن الدعوة «لا يجوز أن تشمل تلك القوى الحليفة أو الصديقة لنظام الاستبداد في سوريا» وإلّا كانت «دعوةً للسوريين كي يتضامنوا مع مُستعبِدهم»، ويمضي حتى آخر مقاله مُدافِعاً عن هذا الرأي. لا يقول حيدر صراحةً في مقاله إن الجمهورية تدعو السوريين للتضامن مع حزب الله، لكن تكريس أغلب مقاله للرد على هذه الفكرة يسمح لنا أن نقول إنه يعتبر التضامن العام مع الفلسطينيين تضامناً أتوماتيكياً مع حماس ومع حزب الله بالتبعية، وأنه يضع الجمهورية في واحد من موضعين: فإما أننا نقصد أن نطلب من السوريين التضامن مع حماس وحزب الله وسائر محور الممانعة، أو أننا نجهل أبعاد كلامنا فلا ندرك إلى أين يقود طلبنا للتضامن.
لكن ما غاب عن بال الأستاذ حيدر هو أننا تَعلّمنا كيف نكون في صفّ من يتعرضون للمذابح دون أن نكون بالضرورة مؤيدين للفصائل التي تقاتل ضد مُرتكبي المذبحة، وتعلَّمنا ذلك بأسوأ الطرق الممكنة. هل كان رفضنا لقتل أهل دوما وتهجيرهم يعني تأييداً لجيش الإسلام وخطابه وتحالفاته؟ لم يكن الأمر كذلك في أي وقت.
وكي ننزل من سماء التجريد إلى أرض الواقع، فإن خليطاً من الفصائل المحلية والإسلامية التي يحمل بعضها سجّلاً إجرامياً سلطوياً عنيفاً هو الذي كان ولا يزال يسيطر على مناطق خارجة عن سيطرة النظام في سوريا، وقد كنّا وما نزال نأملُ أن ينجح هذا الخليط في تجنيب أهلنا التهجير والموت والاستباحة على يد الأسديين وحلفائهم ما أمكنه ذلك. ونحن نعلم جيداً أن هذا الخليط إذ ينجحُ في منع استباحتهم أو تخفيفها هنا وهناك، فإنه لا يفعل ذلك دفاعاً عن الحقوق الإنسانية والسياسية الوطنية للسوريين، لكن هذا لم يدفعنا يوماً للكفّ عن رفض المذبحة الأسدية المفتوحة، لأن الأسدية مشروع إبادة سياسية أياً يكن خصومها الذين يتصدون لها على الجبهات، ولأن بعض أولئك الذين على الجبهات يدافعون عن أهلهم بالمعنى الفيزيائي المباشر للكلمة أياً يكُن الرأيُ في قادتهم ومشاريعهم.
وقد يظن كثيرون أن النقاشات بشأن «المسؤولية» عن المذابح نقاشاتٌ جديدةٌ لم نسمع بها قبل الآن، ولهذا فإنه لا بد من التذكير أنّ نقاشات صعبة وطويلة دارت في الأوساط السورية بشأن ما إذا كانت تلك الفصائل سبباً في استباحة السوريين أم أنها تدفع الاستباحة عنهم. ولا تزال هذه النقاشات غير محسومة إلى اليوم، لكن أياً منها لم يكن ليعني في أي لحظة أن نكفَّ عن التضامن مع أهلنا الذين يتم قصفهم واستباحة حياتهم.
لا يعني ما أقوله أعلاه أن ثمة تطابقاً بين هذه الأحوال كلها، ذلك أن ثمة فوارق كبرى لا يتسع المجال لحصرها بين سوريا وفلسطين وبين الفصائل السورية وحماس وبين الأسديين والصهاينة، كما أن ثمة فوارق موضعية بين حالة وأخرى في سوريا نفسها، لكن المقصود هنا هو إيضاح كيف أن التضامن ضد الإبادة والمذابح ليس متصلاً بالضرورة بالموقف ممّن يقاتلون الطرف الذي يرتكب الإبادة والمذابح.
وكي أكون منصفاً، فإن الأستاذ بشار حيدر يترك لنا طريقاً يمكننا من خلاله التضامن مع الفلسطينيين دون أن يعني ذلك تضامناً مع محور الممانعة وميليشياته، لكنه طريقٌ يمرّ حتماً من الإعلان «بوضوح ودون مواربة» عن أن تضامننا مع الفلسطينيين في محنتهم لا يشمل حماس وحزب الله. لكنه لا يلبث أن يُغلق علينا هذا الطريق كلياً، عندما يقول بأننا «أمام حالة من التَعارُض» لأن «الطرف الذي يُفترَض أنه يخوض معركة الشعب الفلسطيني مع المحتل الإسرائيلي هو نفسه يخوض أو يدعم معركة الاستبداد الأسدي ضد الشعب السوري»، مُعتِقداً أنه بذلك ينسف تماماً ما يسميها «دوغما وحدة المظلوميات».
يمضي حيدر أبعد من ذلك، إذ يعتبر أن موقف «نُخَب اليسار السوري المعارضة» التي «لا تعترف بهذه التعقيدات» ليس إلّا محاولة لتفادي العُزلة، مُعتبِراً أننا نركب «قطار النصرة لفلسطين بعد السابع من أكتوبر» كي لا تتضاعف «عزلة المعارضين السوريين». ينفي هذا القول عن تضامن «اليسار السوري المعارض» مع الفلسطينيين أي مضمون أخلاقي أو سياسي مبدأي، ويجعله مُجرَّد تكتيك سياسي ظرفي، ما يعني أن حيدر يعجز عن إيجاد سبب سياسي معقول لتضامُن السوريين مع شعب تتم إبادته على مقربة من بلادهم.
لكن الإجابات على أسئلة حيدر ليست صعبة بالقدر الذي يتصوره، ذلك أنه إذا كان مدخلُ التفكير الذي يقترحه علينا هو «مصلحة القضية السورية»، فإننا نرى في قضيتنا كفاحاً لانتزاع حق السوريين في تقرير مصيرهم السياسي ونضالاً ضد المذبحة بوصفها ردّاً مقبولاً على كفاحهم هذا، فيكون من مصلحة القضية السورية وأهلها أن لا يتم ارتكاب مذبحة بحق شعب آخر يناضل لانتزاع حقوقه الوطنية والسياسية، فكيف إذا كانت المذبحة تجري بجانبنا، وضد شعب تجمعنا به أواصر وثيقة تمتد من التاريخ إلى اللغة إلى التشابك السياسي، وآخرها مشاركة كثيرين من أبنائه وبناته في الكفاح الدامي ضد الأسدية ومنطقها وأخلاقها.
لقد تعرّضنا في سوريا لحرب إبادية تم التطبيع معها والسماح بها دولياً، ولذلك فإن التضامن مع جيراننا الذين يتعرّضون لحرب إبادية بدورهم ليس رياضة أخلاقية، بل هو ضرورة سياسية حاسمة. من مصلحتنا كسوريين أن تتوقف الإبادة الإسرائيلية وتفشل في تحقيق أهدافها، وأن لا يخرج نتنياهو منتصراً من هذه الحرب، وأن لا يتم التطبيع مع خُلاصات تقول إن المذابح الإبادية تجلب استقراراً وحلولاً للمشكلات السياسية. من مصلحة كل المناضلين في سبيل الديمقراطية والحرية في العالم أن يحقق الشعب الفلسطيني مواطنته الكاملة، وأن ينتهي احتلالٌ استثنائيٌ مديد لا يسمح للفلسطينيين بأن يكونوا مواطنين كاملي الأهلية والفاعلية.
لكن حتى إذا مشينا مع المنطق الذي يقترحه حيدر، والذي يستند إلى فهم ميكانيكي للممارسة السياسية يفصلها عن كل قيمة مجرّدة، فإنه إذا كان انتصار حماس سيُصرَفُ نصراً لمحور الممانعة الداعم للأسد، فكذلك انتصار نتنياهو سيُصرَف نصراً للإمارات التي تقود جهود التطبيع مع الأسد، والتي تمول الميليشيات والانقلابات للدوس على كل أمل بانتقال ديمقراطي في المنطقة. أسوقُ هذا المثال فقط للدلالة على ضعف هذا المنطق وعدم اتّساق نتائجه، بينما أُدافع بالمقابل عن ممارسة سياسية عملية تستند إلى قيم راسخة ترفض الإبادة والمذابح من حيث المبدأ، وتتضامن مع ضحاياها من حيث المبدأ.
ليس هناك تصوّر واحدٌ معقولٌ لشعب سوري يمتلك مصيره بينما تتم إبادة جيرانه الفلسطينيين لمنعهم من امتلاك مصيرهم، وليس ثمة شكّ في أن تحصيل الفلسطينيين لحقوقهم الوطنية والسياسية هو مصلحة وطنية وديمقراطية سوريّة كبرى. وعليه فإن المسألة ليست أنَّ المعارضين السوريين يمكنهم التضامُن مع الفلسطينيين دون أن يفقدوا تضامنهم مع أنفسهم، بل أنَّهم أيضاً يتضامنون مع أنفسهم عندما يتضامنون مع الفلسطينيين، ويستطيعون ببساطة أن يتضامنوا دون أن يمتد تضامنهم ليشمل أعداءهم في حزب الله وإيران، طالما أن تضامنهم واضحُ الوجهة والهدف.
ليست هذه «دوغما وحدة مظلوميات» بلا مضمون سياسي عملي كما يحاول الأستاذ بشار حيدر أن يقول، بل هي مبدأ سياسي أولاً وقبل أي شيء آخر. أما الانحباس في تصورات سياسية ضيقة من قبيل أن التضامن مع الفلسطينيين يعني تضامناً مع حماس التي سيستفيد حزب الله والأسديون من انتصارها، فهو في ظنّي ليس سياسة أصلاً، بل هو رهانٌ على ما لا فائدة سياسية من الرهان عليه، وتضحية مجّانية بموقف سياسي وأخلاقي بالغ الوضوح في جدواه العملية أياً يكن رأينا في حماس وأياً تكُن عداوتنا مع حلفائها.
- الجمهورية نت