إطار تصويت الكتلة مناسب تماماً لحزب “البعث”، الى درجة أنه حتى لو لقيت المعارضة تشجيعاً على التنافس في الانتخابات، مع منحها ضمانات بعدم استبعاد مرشحيها أو مضايقتهم، فلن تحظى أحزاب المعارضة، عملياً، بأي فرصة للفوز بعدد كبير من المقاعد.
نشر المقال الأصلي في المجلسُ الأطلنطي
حدّد الرئيس بشار الأسد يوم 15 تموز/ يوليو المقبل، موعداً لانتخابات مجلس الشعب السوري، بأعضائه الـ250، في مناطق سيطرة حكومته. ومع تطور العملية الانتخابية، ستَصدر سلسلة من المقالات لتحليل العناصر الأساسية للانتخابات السورية، ودورها في إضفاء الشرعية على حكم حزب “البعث”، وستتعمق هذه المقالات في التحديات المقترنة، بالمضي قدماً في الإصلاحات الانتخابية، في إطار العملية السياسية التي تيسّرها الأمم المتحدة.
ناقش المقال الأول من هذه السلسلة الخطوط العريضة للعملية الانتخابية وأهميتها.
أما هذا المقال فيتعمّق في نظام التمثيل الذي يحدد عدد المرشحين الذين سيُنتخَبون لمدة أربع سنوات من كل دائرة انتخابية، وكيف سيصوت الناخبون للمرشحين في هذه الدوائر. ولا يُخفى على أحد، أنّ تغيير أي من هذه العناصر، قد يؤدي إلى نتائج مختلفة كل الاختلاف.
ففي سوريا- هناك ثلاث نتائج يضمنها النظام الانتخابي: إفراط في تمثيل معاقل النظام ضمن مجلس الشعب، وتلاعب لحسم المرشحين الفائزين من خلال نظام للحصص يخصص مقاعد للعمال والفلاحين، ومنع المنافسة الفعالة بين الأحزاب المتعددة.
لا توجد معايير تحدّد العدد المخصص في كل محافظة، لأعضاء مجلس الشعب، بل تُوزّع هذه المقاعد بناءً على تقدير رئيس الجمهورية بشكل صرف، ولا تزال المقاعد موزّعة كما كانت عليه، في انتخابات 2012 و2016 و2020، من دون مراعاة أية تغييرات ديموغرافية شهدتها سوريا منذ عام 2011.
يُذكر أنّ عدد سكّان سوريا يبلغ، استناداً إلى أحدث البيانات الرسمية، 30 مليون نسمة (مقارنة بأرقام الأمم المتحدة التي تقدّر عددهم بـ23 مليون نسمة)، علماً أنه لم يُجرَ أي إحصاء للسكان منذ عام 2004.
يكفي إلقاء نظرة خاطفة لاكتشاف إلى أي مدى كان توزيع المقاعد على الدوائر الانتخابية جائراً، وكيف يؤدي ذلك إلى عدم تناسب هائل في قيمة الأصوات، فيشكّل هذا التوزيع تمييزاً مباشراً ضد ناخبي محافظات الرقة والحسكة ودرعا وحلب وريف دمشق – المرتبطة تاريخياً بالمعارضة – بينما يُعطي الأفضلية للناخبين في محافظات القنيطرة واللاذقية وطرطوس ودمشق.
في هذا الإطار، يبيّن الرسم البياني بوضوح “قيمة الأصوات”، فعلى سبيل المثال، تظهر مقارنة البيانات الرسمية عن عدد السكان، أن محافظة مدينة دمشق ممثلة في مجلس الشعب بضعف مقاعد ريف دمشق، وثلاثة أضعاف مقاعد الحسكة. وفي مثال آخر، يكفي 85 ألف مواطن من اللاذقية لضمان تمثيل هذه المحافظة بمقعد في مجلس الشعب، في حين يتطلب الأمر 150 ألفاً من سكان درعا لضمان مقعد لهذه المحافظة في المجلس، وهذا يتعارض مع المعيار الانتخابي الدولي المتعلق بالمساواة في الأصوات.
وفي حين يؤدي ترسيم الدوائر الانتخابية إلى انعدام المساواة في الأصوات، فإن حصة الفلاحين والعمال، تسفر عن انعدام المساواة بين المرشحين، فمن بين مقاعد مجلس الشعب البالغ عددها 250 مقعداً، خصص المرسوم الرئاسي 127 مقعداً للفلاحين أو العمال و123 مقعداً “لباقي فئات الشعب“، لكنّ القانون لم يوضّح ما المقصود بـ”باقي الفئات”.
شكلياً، كان من المفترض أن تعكس حصة الفلاحين والعمال، التي بدأ العمل بها في عام 1973، القيم الاشتراكية، وأن تضمن تمثيل السوريين من الطبقة العاملة، أما عملياً، فإن عدم وجود معايير للترشح عن هذه الفئة يفسح المجال للتلاعب، وقد فضّل الكثير من رجال الأعمال في الواقع الترشح عن هذه المقاعد.
في انتخابات 2020، بلغت نسبة المسجّلين للترشح كفلاحين أو عمّال 27.5% في المئة من المرشحين فقط (أي 456 من إجمالي 1658 مرشحاً)، ما جعل تلك المقاعد أقل تنافسية بكثير. وفيما النظام الانتخابي يشمل حصةً للفلاحين والعمال، فهو لا يعتمد حصة للنساء، وعلى الرغم من أنّ هذه الحصة ليست الطريقة الوحيدة على الإطلاق، لحماية تمثيل المرأة، فيمكنها أن تساهم في معالجة تمثيل المرأة، الذي لطالما كان منخفضاً للغاية على مر التاريخ، ففي انتخابات 2020، لم تُنتخب إلا 28 امرأة فقط (11 في المئة من أعضاء المجلس).
لكن من بين جميع العناصر المكبِّلة للنظام الانتخابي، فإن تصميم ورقة الاقتراع هو أكثرها إضراراً، فالنظام، في ظاهره، يبدو بسيطاً: يصوّت الناخبون لعدد معيّن من المرشحين، يساوي عدد المقاعد في الدائرة الانتخابية، ويتنافس المرشحون كأفراد، ثم بعد فرز الأصوات، يتم ترتيبهم بحسب عدد الأصوات، التي نالوها بكل بساطة، فمن ينال أعلى مرتبة يفوز بالمقاعد، ومع ذلك، فإن هذه البساطة تخفي وراءها التأثير غير الاعتيادي لهذا النظام الانتخابي، الذي يُسمى زوراً نوعاً ما، بنظام “تصويت الكتلة”.
فمن الناحية النظرية، يسمح هذا القانون للناخبين بالتصويت لمرشحين أفراد، ولكن عملياً، يمنح الناخبون جميع أصواتهم، بشكل يكاد يكون حصرياً، لكتلة من المرشحين، وغالباً ما يستخدمون لذلك، ورقة اقتراع مطبوعة سلفاً بأسماء مرشحين معيّنين، بدلاً من التصويت باستخدام ورقة اقتراع بيضاء يمكن “الكتابة عليها”.
وحتى عندما تحقق الكتلة تقدماً طفيفاً، فهي تفوز تلقائياً بجميع مقاعد الدائرة، ومن يتابع الانتخابات الفلسطينية، يذكر أنّ هذا النظام أسفر عن فوز غالبية نيابية ساحقة لـ”حماس” في عام 2005، كما ضمنَ، في لبنان، تشكيل مجلس نواب موالٍ لسوريا، في انتخابات ما بعد الحرب الأهلية في الفترة الممتدة من 1992 إلى 2005، لكنّ السلطة الفلسطينية ولبنان والأردن، ما لبثت أن تخلّت عن هذا النظام، لتبقى سوريا الدولة الوحيدة في العالم، التي تستخدمه في انتخاباتها الوطنية، وهذا ليس من قبيل المصادفة. فالنظام المذكور مصمم لإخماد جوّ المنافسة بين الأحزاب السياسية، وتظهر نتائج انتخابات 2020 تأثير هذا النظام نفسه، إذ فاز مرشحو قائمة “الوحدة الوطنية” التي هيمن عليها حزب “البعث” بجميع المقاعد التي تنافسوا عليها، في حين لم يحظ المرشّحون من خارج القائمة، بأية فرصة للفوز بالانتخابات. وسيستمر الأمر على هذا المنوال، طالما أنه ليست هناك معارضة على قدر من التنظيم والانضباط والوحدة، تتّخذ شكل قائمة واحدة من المرشحين، بخاصة وأنّ انقسام الأصوات على مرشحين أفراد عدة، يخلّف أضراراً هائلة على كل تلك الحملات الانتخابية الفردية.
من المستحيل تقريباً تقدير النتائج في حال أُجريت الانتخابات السورية بموجب نظام انتخابي مختلف، فبما أنّ كل ناخب يصوّت لمرشحين عدة، لا يمكن ببساطة إعادة احتساب أصوات الناخبين، للتوصل إلى مجمل الأصوات التي سينالها كل حزب، بموجب نظام التمثيل النسبي المفترض. وفي ما خلا الجانب المتعلق بفرز الأصوات، يخلّف نظام تصويت الكتلة، آثاراً بعيدة المدى على المنافسة السياسية أيضاً، فكونه يفترض وجود منافسة بين المرشحين الأفراد- ما يقوض فرص التنظيم السياسي والمنافسة بين الأحزاب السياسية- فهو يؤدي، بشكل مؤكد، إلى تفكيك المعارضة. وفي الواقع، فإن إطار تصويت الكتلة مناسب تماماً لحزب “البعث”، الى درجة أنه حتى لو لقيت المعارضة تشجيعاً على التنافس في الانتخابات، مع منحها ضمانات بعدم استبعاد مرشحيها أو مضايقتهم، فلن تحظى أحزاب المعارضة، عملياً، بأي فرصة للفوز بعدد كبير من المقاعد.
فلاديمير بران يقدم استشارات للسلطات الانتخابية والحكومات والقادة السياسيين بشأن العمليات الانتقالية والانتخابية والسياسية.
مارون صفير يقدم استشارات لمنظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية والمجموعات السياسية والسلطات الانتخابية بشأن العمليات الانتخابية والسياسية.
- درج