“حزب الله يعطي الغاز”: حملة الحزب حول حقل غاز القرش “كاريش”

قام حزب الله، خلال الأشهر الماضية، بحملة توعية مكثفة ومتكاملة، مستخدمًا أدوات فاعلة ودبلوماسية، للوصول إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان. وقد تركزت هذه الحملة على إمكانية استخراج كلا البلدين للغاز، وليس لصالح إسرائيل وحدها. ومع إعلان التوصل إلى الاتفاق، صرّح مسؤولون كبار في حزب الله، على رأسهم حسن نصر الله، بأنهم حققوا انتصارًا في هذه المعركة ضد إسرائيل. من الصعب تحديد من الذي حقق إنجازات إستراتيجية في المعركة على الحدود البحرية وضخّ الغاز، بالرغم من الحملة المعرفية (حملة التوعية)؛ حيث أعرب كلّ جانب عن ثقته بأنه حقق إنجازًا، وقدّم أسبابًا مختلفة لذلك. في الوقت نفسه، يرى البعض في إسرائيل أن نتيجة المفاوضات كانت الخسارة. ويوضح هذا المقال منطق سلوك حزب الله، وخصائص حملة التوعية التي قام بها، وذلك من أجل التعامل بشكل أفضل مع التنظيم في النزاعات المستقبلية المتوقعة.

استهدفت الحملة المتكاملة المتمثلة بممارسة الضغط والوسائل الدبلوماسية والتوعية، التي أدارها حزب الله ابتداءً من حزيران/ يونيو 2022 بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، جمهورَين رئيسيين: الجمهور اللبناني، والجمهور الإسرائيلي. فيما يتعلق بالجمهور اللبناني، فقد تزامنت حملة حزب الله مع وجود أزمة سياسية واقتصادية حادّة في لبنان، وانتقاد علني متزايد للتنظيم باعتباره أحد الأطراف المسؤولة عن تلك الأزمة. وقد طرح الجمهور اللبناني ادعاءات بأن حزب الله يفضّل المصلحة الإيرانية على مصلحة لبنان، ويحدد في الواقع سياسة لبنان في القضايا السياسية والأمنية، فضلًا عن الانتقادات المتزايدة بشأن امتلاك الحزب قوة عسكرية خاصة به. وقد فرضت هذه الانتقادات على حزب الله تبريرَ استمرار حيازته لترسانة الأسلحة، من أجل تعزيز نفوذه السياسي في مواجهة خصومه، ومواصلة التأكيد أنه “المدافع عن لبنان”.

سعى حزب الله في مواجهة إسرائيل إلى تعزيز قدرة الردع لديه، مؤكدًا أنه لا يخشى المواجهة مع إسرائيل، وأنه مستعدّ للقيام بعمل عسكري ضدّها إذا لزم الأمر. وفي هذا السياق، قام الحزب بحملة كان فيها العنصر النفسي هو المسيطر، وذلك من خلال التأكيد على قدرته على ضرب أهداف استراتيجية في أي مكان في إسرائيل، ومن ضمنها حقل “كاريش” وما بعده، لنشر الخوف بين الإسرائيليين، وخلق شعور بأنهم يواجهون تهديدًا جديًّا.

أديرت الحملة بشكل أساسي من خلال خطابات نصر الله وكبار مسؤولي التنظيم، ومن خلال مقابلات في وسائل إعلام لبنانية متعاطفة مع حزب الله، إضافة إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي. وقد تم التأكيد في سياق هذه التصريحات على البعد الاستراتيجي لقضية الغاز، وأهميته في حلّ مشاكل لبنان الاقتصادية، مع التركيز على مقولة أن حزب الله وحده، بفضل سلاح “المقاومة” الذي يمتلكه، هو القادر على حماية مصالح الدولة اللبنانية، وعلى إرغام إسرائيل على أن تعيد للبنان حقوقه في البحر الأبيض المتوسط. وقد نشر التنظيم من بين أمور أخرى مقاطع فيديو ورسومًا كاريكاتورية تشير إلى قلق إسرائيل من قدرة الحزب على استهداف أي مكان داخل أراضيها، حتى منصة استخراج الغاز في حقل “كاريش”. وقد تزامن ذلك مع قيام مسؤولي حزب الله بجولات على طول الحدود مع إسرائيل.

استخدم حزب الله أدوات فعلية في سياق حملته؛ إذ أقدم في حزيران/ يونيو، وفي تموز/ يوليو 2022 على إطلاق طائرات مسيّرة غير مسلّحة على منصّة حقل “كاريش” للغاز. وكان هدف هذه العملية إثبات قدرة حزب الله العسكرية، وتأكيد فكرة أن ترسانة الأسلحة الدقيقة التي بحوزته يمكنها أن تُلحق الضرر بإسرائيل، إذا استمرت في تجاهل المصالح اللبنانية في البحر وبشكل عام، وإضافة إلى التهديدات اللفظية الجدية، استهدف إطلاق الطائرات المسيّرة تأكيد استعداد حزب الله للتصعيد، ومن ذلك إطلاقه أسطولًا رمزيًا من ساحل طرابلس باتجاه المياه الإقليمية لإسرائيل، كتحدٍّ في وسط البحر، وتعزيز قواته على طول الحدود، وإقامة نقاط مراقبة إضافية، والقيام باستفزاز جنود الجيش الإسرائيلي بالقرب من السياج الحدودي، وترافق ذلك مع احتجاجات رمزيّة لسياسيين لبنانيين، قاموا بدوريات على طول السياج ورشقوا الحجارة باتجاه الأراضي الإسرائيلية، وإرسال حزب الله رسائل تهديد عبر القنوات الدبلوماسية.

أثّرت عدة ظروف في إدارة أزمة المفاوضات، ومثّلت عوامل ضغط دفعت إسرائيل ولبنان للتوصل إلى اتفاق بينهما لخدمة مصالحهما، وتقليل خطر الانزلاق إلى الصراع. إذ كان هنالك إدراك في إسرائيل ولبنان للظروف السياسية السائدة، ففي إسرائيل انتخابات الكنسيت (البرلمان)، وفي لبنان نهاية ولاية الرئيس عون. ويضاف إلى ذلك أن الموعد المحدد في إسرائيل لبدء الحفر في حقل “كاريش” دفع حزب الله إلى التهديد بعرقلة الخطة. بالنسبة للجانب الإسرائيلي، كان هنالك إدراك لأهمية وجدية الضغط الذي مارسته الحكومة الأميركية للتوصل إلى اتفاق، على خلفية أزمة الطاقة العالمية، إضافة إلى تفهّم أن اتفاقية إنتاج الغاز ستشمل لبنان، وستُسهم في الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة، وستعطي بالتالي أفقًا اقتصاديًا للبنان، وبذلك يصعب على حزب الله اتخاذ إجراءات عسكرية ضد إنتاج الغاز الإسرائيلي، في ضوء الثمن الذي سيدفعه لبنان والتنظيم مقابل ذلك.

أدار حزب الله حملته بإصرار وبكثافة. ولأن حسن نصر الله كان مدركًا لحقيقة أن إسرائيل ليست معنية بالتصعيد، بل بالاتفاق، أخذ يردد بأنه مستعد للمخاطرة بمواجهة عسكرية. ومن هذا المنطلق، أطلق الحزب طائرات مسيرة غير مسلحة، وصعّد لهجته الكلامية، وأصدر إنذارات مهددًا بتصعيد نشاطه العملياتي، مع أنه امتنع عن تنفيذ التهديد. وبموازاة تهديداته، كرّر نصر الله تفضيله لحل تفاوضي على الحرب، وكان حريصًا على التصريح بأنه سيحترم أي اتفاق مستقبلي تقرره الحكومة اللبنانية، وبالتالي استطاع إدارة المخاطر، ومهّد الطريق إلى الادعاء بأنه سيكون صاحب الفضل في حال التوصل إلى اتفاق بين لبنان واسرائيل.

يرى حزب الله أنّ “ما حدث كان انتصارًا بالتهديد بالحرب، من دون اللجوء إلى الحرب”. وقد أدار إستراتيجيته من منطلق أنها معركة عقول مدعومة بالتهديدات والتحركات الفعلية، التي عبّر عنها نصر الله بوضوح، في خطاباته في 27 و29 تشرين الأول/ أكتوبر، فالنصر العظيم، حسب قوله، يعود إلى “الدولة والشعب والمقاومة”. واستهدفت الحملة التي أدارتها وقادتها منظمة حزب الله حماية حقوق لبنان، وكانت مدعومة بالتهديد باستخدام سلاح المقاومة، وردع إسرائيل عن استخدام قوتها ضد لبنان، وانتهت باتفاق دون التزام لبنان بالتطبيع مع إسرائيل.

سجّل تنظيم حزب الله نجاحًا أمام الرأي العام اللبناني على وجه الخصوص، بأن عزّز ادعاءه بأنه وطني لبناني، يحمي لبنان بقوته العسكرية، ويساعد في تحقيق المصالح اللبنانية عبر تبني نهج مسؤول. وحمل ذلك الرئيسَ ميشيل عون على الثناء على الحزب لمساهمته في إنجاح المفاوضات. وفي الوقت نفسه، نجح الحزب، من وجهة نظره، في الحفاظ على معادلة الردع تجاه إسرائيل -في المجال البحري أيضًا- بل تعزيزها.

من وجهة نظر إسرائيل، من ناحية أخرى، تمت المحافظة على واقع الردع المتبادل، ولم تتحقق تهديدات حزب الله بحدوث مواجهة عسكرية، ولم تقع خسائر بشرية أو أضرار في البنية التحتية في إسرائيل. وقد كان هنالك تفهّم في إسرائيل لحقيقة الربح الاقتصادي المستقبلي، وانخفاض مخاطر التصعيد، وإيجاد بيئة أمنية هادئة حول إنتاج الغاز، فضلًا عن زرع البذور لتفاهمات سياسة وأمنية مستقبلية مع لبنان.

إلا أنّ إسرائيل لم تقم بدورها بما يكفي، لتشويه صورة حزب الله في لبنان وفي الخارج، وذلك بتقديمه على أنه عامل دعاية للحرب، قد يجلب كارثة على لبنان الذي يُعدّ بلدًا منهارًا. وإضافة إلى ذلك، كان من الممكن إبراز حقيقة أن حزب الله عامل سلبي يشكل عائقًا أمام تقديم مساعدات اقتصادية دولية للبنان؛ إذ اكتفت إسرائيل بتحذيرات لحزب الله، أطلقها كل من وزير الدفاع بيني غانتس، وقائد المنطقة الشمالية المتقاعد حديثًا أمير برعام، بألا يجرّب قدرات إسرائيل الحربية، إضافة إلى جولة جوية رفيعة المستوى قام بها رئيس الوزراء يائير لابيد، فوق منصة الحفر في حقل “كاريش” للغاز.

من المحتمل أن يكون الردّ الإسرائيلي المحسوب على تهديدات حزب الله جزءًا من إستراتيجية إعلامية مدروسة، تهدف إلى تعزيز إمكانية التوصل إلى اتفاق وإنجاز اقتصادي-إستراتيجي من وجهة نظر إسرائيل، بصرف النظر عن تسويق حزب الله للاتفاق على أنه إنجاز له. ومن المسلّم به أن هذا النهج أظهر حزب الله كأنه أدار حملة نفسية ناجحة، تركت انطباعًا، لدى العديد من الجهات في لبنان، ولدى من يؤيدونه في “محور المقاومة” الإقليمي وحتى في إسرائيل، بأن التنظيم خرج من الأزمة رابحًا.

وبالفعل، هناك أيضًا جهات سياسية وأخرى في إسرائيل تسلّم بوجهة النظر التي قدّمها حزب الله، وتنظر إلى المسألة من وجهة نظر الحزب، المتمثلة بأن “فرض” الاتفاق على إسرائيل هو بمنزلة إنجاز له. وبحسب النقاد، من الممكن أن تكون إسرائيل قد ربحت نقاطًا مهمة في الحملة الحالية ضدّ حزب الله، وكذلك في السياق الإقليمي الأوسع، لكنها قد تدفع ثمن ذلك على المدى الطويل، حيث قد يستنتج الحزب أن التهديدات ضد إسرائيل هي التي فرضت عليها الاتفاق، وبالتالي فإنّ الضغوط والتهديدات قد تؤثر على إسرائيل في المستقبل أيضًا. وفقًا لهذا النهج، فإن إسرائيل تخاطر، لأنّ حزب الله، بعد إحساسه بالنصر، قد يلجأ إلى التأسيس لإحساس زائف بأنه يمتلك قوة زائدة، معتقدًا أن إسرائيل تعاني حالة ضعف، ومن ثَم يتجرأ على ارتكاب خطأ من خلال تصعيد استفزازاته ضد إسرائيل، وقد يفضي ذلك إلى الانزلاق إلى وضع خطير، ينتهي بمواجهة عنيفة بين الحزب وإسرائيل.

يتمثل التحدّي الذي سيواجه إسرائيل، بعد انحسار الأزمة الحالية، في كيفية إفشال محاولة حزب الله التأكيد أن نجاح الحملة التي أدارها هو نتيجة التراخي الإسرائيلي، واضطرار إسرائيل إلى انتهاج سياسة حذرة ومدروسة في مواجهة تهديداته. ومن أجل الوضوح الإستراتيجي، يجب على إسرائيل أن تجعل نصر الله يدرك جيدًا أنها تفضّل النجاح السياسي والاقتصادي والأمني ​​على الردّ العسكري، مقابل ثمن تكتيكي يمنحه إنجازًا جزئيًا على المستوى النفسي. إلى جانب ذلك، فإنّ التحدي المتوقع لإسرائيل، ربما في المستقبل القريب، سيكون ضمان الحفاظ على عنصر الردع بمواجهة حزب الله، في ظلّ الاستفزازات والاحتكاكات المتوقعة بشأن قضايا الحدود التي لا تزال موضع خلاف بين الجانبين.

نبذة عن المؤلفين

يورام شفايتسر

انضم فيرام شفايتسر، الباحث البارز في معهد دراسات الأمن القومي ورئيس برنامج الإرهاب والحرب منخفضة الحدة، إلى فريق البحث في معهد دراسات الأمن القومي في شباط/ فبراير 2003. وخدم في سلك الاستخبارات، وعمل مستشارًا لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب في مكتب رئيس الحكومة وفي وزارة الدفاع، وشغل منصب رئيس قسم الإرهاب الدولي في الجيش الإسرائيلي، وكان عضوًا في فريق العمل الخاص بقضية الأسرى والمفقودين الإسرائيليين في مكتب رئيس الوزراء. وكان باحثًا ورئيس “المناهج التعليمية” في معهد السياسة الدولية ضد الإرهاب (ICT) في المركز متعدد التخصصات في هرتسليا، وهو حاصل على درجة الماجستير في التاريخ العسكري والدبلوماسي من جامعة تل أبيب.

عنات شبيرا

عنات شابيرا باحثة (زميلة نيوباور) في برنامج الإرهاب والحرب منخفضة الشدة، في معهد دراسات الأمن القومي، وطالبة دكتوراه في قسم الفلسفة في جامعة تل أبيب. تتناول أبحاثها الأساس الأخلاقي لقواعد وأخلاقيات الحرب. تدرس عنات في سياق عملها تأثير تبني مقاربات معيارية مختلفة حول أسئلة مثل “متى يكون من المناسب خوض الحرب”، و “ما هي الوسائل المشروع استخدامها أثناء الحرب”. وتركز في عملها في المعهد على هذه الأسئلة المتعلقة بالإرهاب والتفاعل بين هذه الأسئلة وحرب الوعي التي تشنها المنظمات الإرهابية.

دافيد سيمان-طوف

المقدّم (احتياط) ديفيد سيمان-طوف هو باحث أول في معهد دراسات الأمن القومي، متخصص في مجال الوعي، ونائب رئيس معهد أبحاث منهجية الاستخبارات في مركز تراث الاستخبارات. عمل سابقًا في شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي. وقد نشر العديد من المقالات حول مواضيع الوعي والإنترنت والذكاء، كما قام بتحرير مجلة “Intelligence in Practice” الصادرة عن معهد أبحاث منهج الذكاء. وألّف كتاب “قسم الاستخبارات ينشر”. وهو حائز على ماجستير في العلوم السياسية من جامعة تل أبيب.

*- الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز.

الكاتب يورام شفايتسر، عنات شبيرا، دافيد سيمان-طوف
رابط المادة https://bit.ly/3Pb5hDg
مكان النشر وتاريخه مركز دراسات الأمن القومي – جامعة تل أبيب 
نظرة شاملة، العدد 1655، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
عدد الكلمات  1708
ترجمة وحدة الترجمة
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

مايو 2024
س د ن ث أرب خ ج
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
25262728293031

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist