إرادة الحياة سابقة على إرادة الطغاة، وقد تتأخّر، فلا يقامرَنَّ أو يغامرَنَّ مَن رضع الكرامة من الصدور.. هو شأن الكلمة الفيصل، في آخر قصائد جبل العرب، تكسر وهمَ انتصار الأسدية، وتغنّي أنشودة الخلاص السوريّ المنشود.
فشَعرة معاوية قُطعت، والمراكب أُغرقَت ، والأشرعة أُحرقَت، ولن تعود الساعة القهقرى، فلنستعدّ لمرحلة جديدة؛ قد لا تعجبنا، وقد تكون خطوة صوب الهدف، وقد تكون غير الحلم، لكنها، ما نريده اليوم، مسماراً في نعش الطاغية، ولنستعدّ للآتي ممّا خفي أو أُعلن من سيناريوهات ومشاريع.
صار إسقاط النظام أيقونة السوريين، والموالاة مثل المعارضة؛ عانت، وفُجعت، وامتُهنت، وسُلبت، وانتُهكت، وكذلك تحوّلت رهينة، أفلا يكون على مَنْ حالُه مثلُك رهانٌ؟ فقد بان مصيرهما الواحد. إذ فاتت السَّكرة، وتربّعت في الأرض الفِكرة شاخصة جليّة، عارية من أحابيل الكذب وألوان النفاق. صارت انتفاضة السويداء ودرعا آيات وطنية، تتلوها حناجر فُطرت كرامة، ونهلت كبرياء، أعادت لسورة الثورة السورية إعجازها، فأحيَت ما ظُنَّ بواراً، ووقرت سمع الأرض الأصمّ بلاغةً وفصاحة، فاستعادت أنشودتها الأولى ” الشعب السوري واحد “، ورتّلت لازمتها ” سورية بدها حرية”.
في جنوب سورية يجتمع اليوم السهل مُشعِل شرارة الثورة 2011، والجبل مُجدّد جذوتها 2023، وكلاهما عبر ثلاث عشرة سنةً قدّم كل الأدلّة؛ لتسقط ورقة التوت، وتتهاوى سرديّات استقتلت الأسدية لرعايتها وتثميرها، فلا الأكثرية أكلت الأقليّات، كما ادّعت، ولا الأسدية كَفَتها عيشاً كريماً، بل استنزفتها، وجوّعتها وأذلّتها وامتطت مظلومياتها، بعد تهويل مخاوفها، لتتمكّن من التغوّل في استبدادها، والولوغ بالدماء والإجرام والدمار، وتستنزف الجميع لمصلحة عصابة كان آخر ما امتهنت تجارة المخدرات، لتحوز شرف المرتبة الأولى عالمياً، وقد سجّلت رقماً قياسياً بعدد الوثائق التي تصمها بالقتل والوحشية والإجرام، وهي الوصوف التي لا تموت بالتقادم.
إن كان ما يجري بفعل الجوع، كما تروّج الأسدية، فلا يعيب الجائع أن يصرخ ليستمرّ في الحياة، وشتان بين جائع وجائع، الجوعى هنا رفعوا سقف المطالب من اللقمة إلى الكرامة والحرية، ولم يطلبوا لأنفسهم “منطقة أو طائفة”، بل كانوا لساناً يلهج بقهر السوريين ومعاناتهم وإرادتهم جميعاً، لسورية حرة ديمقراطية تعددية للسوريين، مطالبين بإطلاق المعتقلين، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بقراءته الأصيلة، وإسقاط النظام أولاً؛ فالتريّث يعني استمراراً للقهر والذل والجوع والموت والمعاناة والدمار، ورافضين للاحتلالات التي استجلبها الطاغية دعماً لقمعه وتمدّداً لسلطانه واستبداده، يردّدون بلا كلل أو ملل: الدين لله والوطن للجميع، سوريون قبل الطوائف والأديان والإيديولوجيات والإثنيات. الجوعى هنا، فهموا اللعبة وأتقنوا التعامل معها، وكذلك في الشمال والشرق، وفي الساحل حيث حاضنة الأسدية التي ربط مصيرها ببقائه، قرؤوا بوعي متغيّرات العالم والمنطقة وانعكاساتها على القضية السورية، إذ صارت الأسدية عبئاً على داعميها ومستثمري توظيفها، بعد فشلها في تلبية الحدّ الأدنى ممّا يتوجّب عليها في ظلّ هذه المتغيرات، فقُدّمت للأسدية مخارج مغرية لما آلت إليه، وكانت خذلاناً لدماء السوريين ومعاناتهم، فأُعلِن تعويمها وبدء التطبيع معها، وقُدّمت المعونات ووُعدت بالمشاريع والمساعدات، بينما تحاول-الأسدية- استثمار تناقضات وتوافقات وتحالفات الجميع، تكاذباً وتسويفاً، وتمنّعاً وتجاهلاً، لزيادة النهب لقوت الناس –وحتى المساعدات الأممية- والمتاجرة بتجويعهم، والابتزاز بتعويم محيطه بالكبتاغون والأسلحة، وبيع سورية، قرارها وموقعها وثرواتها ومصير شعبها، بالمفرّق والجملة.
لقد سقط النظام في وجدان السوريين، وأهينت رموزه منذ 2011، ومازال السوريون يؤكّدون ذلك، ويعملون لإسقاطه واقعاً، بعد أن ظنّ الطغاة أنهم وأدوا الثورة، فتبرعمت شباباً منتفضاً في كل جهات سورية، ورجالاً يقرؤون الواقع ومتطلباته بتبصّر، ويعرفون المراد لوطنهم إن بقيت الأسدية، سوريون تأصّلت فيهم الوطنية، يقرّبون الرؤى، ويوحّدون النهج، ويعرفون دربهم، ويعون قدرتهم على تحقيق الآمال ومواجهة الصعاب، وصولاً لسورية الوطن الحرّ الواحد لكل أبنائه.
• رئيس التحرير