في هذا العام الحالي، 2023، تكون 30 سنة قد انقضت على منعطف فارق في مسيرة الروائي السوري الكبير هاني الراهب (1939- 2000)؛ تمثّل في كتابة أربعة أعمال سردية، دفعة واحدة تقريباً، ذات عناوين تحمل مفردة مشتركة: “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم”.
لم يكن خيار الاخضرار والخضراوات شكلياً، في يقين هذه السطور، رغم أنّ اعتبارات شكلانية يصعب أن تُنتفى تماماً، خاصة إذا ذهب المرء إلى طراز من المساءلة اللونية، على سبيل المثال، بين اخضرار الحقول والمستنقعات مقابل البحار والعلقم. ثمة، في كلّ عمل على حدة وكذلك ضمن سياقات مشتركة تربط الأعمال الأربعة، انتهاج قصدي صريح في تعميم التباينات الصارخة، أو حتى فرضها قسراً كما يجوز القول؛ على مشهديات حاشدة يعرضها السرد، ببراعة الراهب العالية، وتحتمل الكثير والمتعدد من علاقات الألوان بالمناخات الشعورية.
ليس هنا المقام المناسب لاستعراض ما انطوت عليه الأعمال الأربعة من موضوعات وشخصيات وأحقاب تاريخية وتقنيات سردية، وقد يكون من الإنصاف منح الراحل فرصة توصيف تلك الخيارات، ليس من دون تسجيل التحفظ المعتاد حول مفهوم مغالطة القصد لدى أيّ كاتب، في أنواع الإبداع كافة. ففي حوار مع أحمد عساف، يعود إلى ربيع 1998، اعتبر الرهب أنه كتب روايتَين على الأقل ضمن السلسلة الرباعية، هما “خضراء كالمستنقعات” و”خضراء كالحقول”، وهو “في حالة وعي متأزم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار التقدم العربي، وانهيار حتى النظام الاقليمي العربي”؛ وأنّ إحساسه ذاك توجّب أن ينعكس على أدواته الفنية.
وبالتالي، يتابع الراهب: “بدأت ألعن اللغة لأنّ اللغة التي استخدمتها في ثلاثين سنة كانت لغة باهرة، لغة شعرية، لغة ارتيادية، لغة تقدمية… لكنّ الشعر والتقدم والارتياد كله انهار، فلماذا أنا محتفظ بهذه اللغة التي باتت الآن وكأنها مجرد زينة، مجرد حلية”. ولذلك: “قلت لنفسي لماذا لا أكتب رواية بلغة ميتة. في العام 1990 -1991 كنت أعيش حالة من الموت المؤقت، ولو كنت شاعراً لكتبت المراثي لهذا الوطن الذي تمزق بين أسنان الطغيان والتخلف”. والحال أنّ الراهب كان يتحدث هكذا، وهو صاحب موقع متميز داخل المشهد الأدبي والثقافي والسياسي السوري، خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم؛ إذْ كان أحد أبرز نماذج وعي إبداعي انشقاقي تحلّى بسمات تكوينية وفلسفية وسلوكية فارقة.
لقد كان ابناً وفيّاً لتلك الأطوار التي شهدت ارتجاج الوعي بالهويّة الوطنية، والموقع الاجتماعي، والموقف الفكري؛ لمثقف سوري يساري غير ماركسي، قوميّ ولكنه وجودي التفلسف والسلوك، ريفيّ متحدّر من بيئات فقيرة، متحالف (في الحزب أو الجامعة أو المقهى) مع رفيقه أو زميله أو صديقه المدينيّ البرجوازي الصغير الذي يشاطره الحساسيات ذاتها. وكان، إلى هذا كلّه وسواه، القادم إلى الحاضرة الكبيرة (دمشق، بصفة أساسية)، حاملاً عناصر اغترابه وتمرّده على “الحياة الأخرى” وتعطّشه إليها في آن معاً.
العمل السياسي (في حزب البعث أو في الحزب السوري القومي الاجتماعي، على نحو خاصّ) مثّل بوصلة تعريف ذلك المثقف على الحياة الأخرى تلك، وكان أيضاً بوتقة انصهاره فيها أو انسلاخه عن أعرافها وشروطها، وخيرها وشرّها. البوتقة الثانية تمثّلت في العمل الإبداعي، ولم يكن مفاجئاً أنّ تكون الهزيمة الشاملة هي الموضوعة المركزية الطاغية في النتاج الأوّل لمعظم أبناء هذه الفئة. تلك كانت حال الأعمال الروائية والشعرية لأمثال الراهب (خصوصاً في روايته الأولى “المهزومون”، التي نالت جائزة مجلة «الآداب» مطلع الستينيات، وكان مؤلفها في الثانية والعشرين من العمر)، صحبة حيدر حيدر ونبيل سليمان وممدوح عدوان وعلي كنعان، على سبيل الأمثلة فقط.
لكنّ الراهب انفرد عن هؤلاء بخصيصة واحدة هي تلمّسه المبكّر لمعنى ارتباط الاحتجاج بالحرّية، ومدى الحاجة إلى الديمقراطية على صعيد المجتمع العريض بأسره أوّلاً، ثم على صعيد المبدع بعدئذ واستطراداً. ولم يكن غريباً أن يُعتقل سنة 1985 في مطار دمشق وهو في طريقه إلى اليمن، حيث كان يعمل مدرّساً بالإعارة؛ ويُسحب جواز سفره، ويُفصل على الفور من وظيفته كأستاذ للأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، ويُمنع من السفر طيلة سنتين. ولقد خُيّر بين التقاعد المبكّر أو تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الثانوية (وهو الحائز على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي)، فاختار الاستقالة ومغادرة سوريا للتدريس في جامعة الكويت.
كان لافتاً، كذلك، أنّ طور التحوّلات الأسلوبية، ولكن الفكرية والسياسية أيضاً، الذي أسفر عن كتابة أعمال الخضراوات الأربعة؛ توجّب أن يفضي بالراهب (صاحب “المهزومون” دون سواها، حيث البطل الوجودي المتمرد!) إلى وضع سلمى، الشخصية المحورية في “خضراء كالمستنقعات”، داخل تقاطع نيران بين إبقاء الحجاب على الرأس، ولهفة الوعي على التماثل مع الأعضاء في اجتماعات كومونة يسارية: “شكلي لم يكن مجرد شكل. كان عائقاً. كنت أحسّ بأنّ أغطية الرأس تمنع لغتهم من الوصول السليم إلى أذني”.
واليوم، بعد 30 سنة على خضراوات الراهب، ثمة الكثير الذي يواصل حفظ مكانتها كسرديات تعكس تعطّش الأدب السوري إلى رواية التاريخ، في مواجهة نظام سياسي يحظر أيّ تأريخ خارج سرديات الاستبداد.
“القدس العربي”