إن كانت قمة جنيف بين بايدن – بوتين قد أوجدت مسارات للتداول في القضية السورية دون الاحتكاك المباشر، فإنها –على ما يبدو- فتّحت مصاريع الأبواب كلها للعراك في المؤتمرات والاجتماعات في أكثر من مكان في العالم، وإن كانت قمة بروكسل بين بايدن– أردوغان قد حدّدت مرتسمات لمستقبل العلاقات الثنائية، فإنها -على ما يبدو- أسّست لتحجيم كل الأدوار في الملفّ السوري، وستكون تركيا في مقدمة الفائزين.
ومن هنا يمكن فهم الكِباش الدائر حول سورية من منطلق انعكاسات الأفعال على الأرض، وعلى الاصطفافات والتوازنات والتحالفات، وما نتج عنها من توافقات مرحلية أو تحالفات مصلحية، تلاعباً أو تخادماً أو تقايضاً بين أطراف متصارعة، لا ثقة بينها، حتى يثبت العكس.
وقد أثبت بوتين أن سياسة التشجيع التي يعتمدها بايدن غير مجدية، فلا عدم إصدار قائمة عقوبات جديدة، ولا غضّ البصر عن الضغوط للتطبيع العربي مع النظام، ولا عدم الالتفات إلى بعض التجاوزات لقانون قيصر، بل تأكّد بايدن أن سياسة الضغط الأقصى هي الأنجع، وقد استعدّ لها بوتين باستعراضات لأسلحة جديدة في حميميم والبحر المتوسط، وضغوطات لجرّ تركيا إلى مواجهة في إدلب تخلط الأوراق، وتخلق واقعاً جديداً بوقائع لا يمكن تدارك نتائجها، إلا بالإذعان للإرادة الروسية ورؤيتها.
أمّا الجديد، فحشد كلا الطرفين للحلفاء والفاعلين لتكون المواجهة بين كتلتين لا دولتين، وبين رؤيتين لا رأيين، ومن هنا كان مؤتمر روما الذي حشدت له واشنطن، ووظّفت آلتها الدبلوماسية للضغط لتمرير قرار تمديد المساعدات عبر الحدود، وبذلك ترسم حدود تعاملها مع القضية السورية في الجانب الإغاثي والإنساني، في الوقت الذي يمكنها فرض إرادتها في رؤيتها للتعامل مع القرار الأممي 2254. وفي المقابل جاءت دعوة روسيا لحلفائها في سورية للجولة 16 لمؤتمر أستانا، للردّ على مخرجات روما، وبذات اللغة التي لن تخرج عن العموميات واسترضاء الحلفاء، لتقول إنها تتعامل بجدية وندّية، وتعِد بالمزيد من الخطا وتسريع الأهمّ كما ترى.
وعلى الرغم من احترابهما، ثمّة مسار بينهما يلتئم في جنيف، على رأسه ماكغورك ولافرينييف،لتحقيق ما أقرّته قمة بوتين- بايدن لخروج الطرفين، وقد تنازلا، منتصرَين، وربما سيتّفقان على تمرير التمديد مقابل فتح ممرّات للتبادل التجاري بين بعض مناطق المعارضة والنظام، وربما سيقرّران فتح معابر أخرى عبر الحدود مقابل فتح معابر أخرى بين النظام والمعارضة، ويكون الرابح الأول نظام القتل وحلفاؤه، وتحقّق روسيا بالدبلوماسية ما عجزت عن تحقيقه بآلتها العسكرية، وتدور العجلة عاماً آخر، والشعب السوري يجترّ وعوداً وخيبات لا نهاية لها، ولتستقرّ القضية السورية بعيداً عمّا يحقّق الانتقال السياسي المسكوت عنه، على الرغم من أن كل المؤتمرات حول سورية، أو تلامس القضية السورية تقرّ ألاّ حلّ إلاّ سياسيّ، ووفق مقرّرات الشرعية الدولية.
إن المعابر والجدل حول إغلاقها وفتحها،صارت قضية ضغط سياسي عبر الاعتبارات الإنسانية، ولنقل أضحت ورقة في بازار الصراع على سورية خدمةً لأجندات الأطراف الفاعلة فيه، ومن هنا كان ردّ مندوب روسيا في الأمم المتحدة على دعوة غوتيرش الأمين العام لإبقاء معبر باب الهوى مفتوحاً، أن ذلك“ نفاق إجراميّ“، وسبقه لافروف مؤكداً ثبات موقف موسكو. وهكذا لم تتجاوز موسكو اختبار واشنطن لها، ولن يكون باب الهوى –حتى الآن-ممرّاً للحوار بين الطرفين في عدّة ملفات تتعلّق بسورية، لكن تحدّياً يجب عبره وقف الابتزاز الروسي، وقد حشدت أميركا المجتمع الدولي في روما لفرض مواصلة إرسال المساعدات من خلال المعبر الوحيد بالقوة ومنع الروس اعتراضه، أو تُدفَع تركيا لتكون واجهة استمرار دخول المساعدات تحت حمايتها، أو تحويل الحدود إلى معابر تعتمدها المؤسّساتالدولية.
ولكن ماذا لو استخدمت الصين الفيتو– وهي شريك فيتو المعابر– تحدّياً وابتزازاً لأميركا وإحراجاً للمتصارعين، وامتنعت روسيا عن التصويت؟ هنا سيكون للحدث طعم مختلف،
إذ يعني أن رسم سياسات القوى الإقليمية والدولية في منطقتنا قد بدأ، وأن الملفّ السوري مرتبط بكل الملفات الساخنة التي ستتمخّض عن خريطة سياسية جديدة، رُسمت بالدم السوري دون غيره. ويزيد من مرارته أننا-السوريين- فشلنا حتى الآن في إيجاد مَن يتحدّث باسمنا، ومن يمثّلنا بلا تبعية أو ارتهان لطرف ما.