في صفقة تبادل المصالح بين الأحزاب الشيعية والكردية كشفت القيادات السياسية الشيعية منذ البداية عدم اكتراثها بمصالح عرب العراق شيعتهم وسنّتهم وتركز هَوَسها على وضع ضمانات استمرار تحكمها بالسلطة المركزية.
حينما تُسأل عن وصفة الديمقراطية في العراق لا شك ستجيب، بمنطق سياسي مستند على رؤية حقيقية، بأنها هِبَة تاريخية قدمتها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لمجموعة من الجهلة العراقيين غير السياسيين المتمسكين بشعارات المرشد الإيراني الأعلى المذهبية غير العراقية لتطبيقها في العراق بعد تعيينهم من قبل سلطة الاحتلال الأميركي، تتحكم فيهم عُقدة التمسك والاستئثار بالسلطة، تحت العنوان الطائفي المتخلف الرافض للهوية الوطنية، حتى وإن خرجت من داخل صفوف الشيعة الأصلاء في العراق.
الوصفة السحرية في الانتخابات رافقها غموض النظام السياسي في عموميات مقصودة تم تضمينها في دستور 2005، بما يتعلق بمرجعيته هل هي دينية مذهبية أم مدنية، حيث أشرف على كتابته مستشار الحاكم بول بريمر، اليميني المتطرف نوح فيلدمان، مُقنن فكرة المحاصصة (شيعة، سنة، أكراد) بتشجيع وحماسة من القيادة الكردية، وفق متطلبات التحالف الشيعي الكردي الذي عاش أيام زهوه برعاية مباشرة من واشنطن منذ مؤتمر لندن 2002، ولاحقا بعد الاحتلال العسكري لبغداد حتى نهايته عام 2021.
في صفقة تبادل المصالح والمكاسب بين الأحزاب الشيعية والكردية، كشفت القيادات السياسية الشيعية منذ البداية بمكر عدم اكتراثها بمصالح عرب العراق، شيعتهم وسنّتهم، وتركز هَوَسها على وضع ضمانات استمرار تحكمها بالسلطة المركزية وكسب المغانم، إحداها البدعة المُلفّقة غير الدستورية بتحكّم المكون السياسي الشيعي الأكبر في السلطة، أما القيادات الكردية فكان اهتمامها الأول وضع قواعد الإقليم الكردي وتفصيلات إدارته في وثيقة الدستور، بما يلبي مصالح وحقوق الشعب الكردي التاريخية قبل المنافع الذاتية حيث اعتبروها أمرا حتميا لاحقا.
الضلع الثالث من معادلة السلطة الطائفية العرب السنة، كان وظل إلى حد اليوم الضحية الحقيقية بعد أن قرر الأميركان تهميشهم دستوريا وعمليا مقابل احتكار السياسيين الشيعة للسلطة العليا. لذلك لم يصوّت العرب (السنة) على وثيقة دستور 2005، ولم يعترف سياسيوهم بعد 2003 بالصيغة الطائفية المدمرة لتآخي المجتمع العراقي. مثال ذلك دعمهم الواسع لترشيح وفوز إياد علاوي في انتخابات عام 2010، رغم أنه ليس سنيّا، تم تهميشهم من الشراكة في قرارات المصير العراقي الأساسية، ثم وضعوا في خانة الإرهاب زورا وكذبا في العلاقة مع تنظيم داعش، مع أنهم كانوا ضحايا التنظيم في الموصل وبقية المحافظات الغربية.
إذا ما صمد الصدر في تحالفه مع السنة والكرد بوجه اللعبة الطائفية وأصحابها، فلن يتمكنوا من الصمود السياسي وقد يلجأون إلى خيار الفوضى
خلال تمرير الصفقة الشيعية – الكردية التاريخية في الصياغة الدستورية المتعلقة بالإقليم الكردي شبه المستقل، كان الأكراد أذكياء في وضع صياغة تبيح قيام أقاليم فيدرالية لعموم العراق العربي، كأنهم قرأوا جيدا الأحداث الماضية واللاحقة، مثل دعوة رئيس المجلس الإسلامي الشيعي عبدالعزيز الحكيم للإقليم الشيعي في الجنوب عام 2004، ثم دعوة القاضي وائل عبداللطيف إلى إقليم البصرة عام 2008، ثم في عام 2010 وما بعده الدعوات السنية لإقامة الإقليم العربي السني في الأنبار أو ديالى وغيرها من المحافظات الغربية. لكن عمليا يُحرّم على المظلومين أبناء هذه المحافظات رغم المشروعية الدستورية قيام أقاليمهم تمسكا وتيمّنا “بوحدة العراق” ليظلوا أسرى تحت سيف الحكم الطائفي المستبد الظالم.
الاختلال والتفكك التاريخي في تحالفات الأحزاب الشيعية مع القيادات الكردية، ثم في ما بعد مع بعض الأحزاب والقوى الشيعية النافذة في الشارع (مقتدى الصدر) حصل بعد ما أفرزته نتائج انتخابات أكتوبر 2021، ليشكل بداية الانهيار وانكشاف القوة الحقيقية لتلك الأحزاب، وغلق أبواب تسعة عشر عاما من الخداع والتمتع بلعبة الديمقراطية والانتخابات، وبدء مرحلة جديدة أدركتها الأحزاب الولائية لإيران وتتعامل وفقها اليوم.
لعبة الجمهور الشيعي انتهت بعد ثورة أكتوبر العراقية الأصيلة، وانفضاض الجمهور الخاص عن القيادات الفاسدة الموالية لطهران في الانتخابات الأخيرة. الأموال الهائلة وأساليب الترهيب والترغيب حققت لبعض قياداتهم أرقاما معتدلة. خطورة هذه النتائج على الأحزاب الشيعية المتطرّفة أنها أنتجت تحالفات سياسية جديدة بين قوى شيعية وكردية وسنية كسرت عمليا اللعبة الطائفية، وخدعة أحقية تلك الأحزاب في قيادة الحكم العراقي نيابة عن المكون الشيعي.
هذا التداعي الخطير دفع تلك الأحزاب إلى إعلان التخلّي الشكلي الماكر عن هدية الأميركان الديمقراطية، في الانتخابات التي استثمرتها قرابة العشرين عاما في النهب وقتل الخصوم وإهانة كرامة الناس ومن بينهم أبناء الشيعة، الذين أعلنوا أخيرا التمرّد على نتائج الانتخابات وأنهم أصحاب الحق الطائفي الشيعي في قيادة إدارة العمليات الإجرائية في تعيين رئيسي الجمهورية والحكومة مقابل إذعان الفائز الشيعي الأول لهم.
هكذا عمليا تتحقق الهزالة والتخلّف السياسي والتخندق الطائفي الولائي، في رفضهم أن يُقاد النظام السياسي في البلد حتى ضمن قياسات الشراكة الطائفية (شيعة، سنة، أكراد) إن لم تدر من قبلهم شيعيا ووفق الولاية الإيرانية. لهذا نراهم يرفضون ترشيح رئيس الوزراء الشيعي جعفر الصدر من قبل ما يسمى التحالف الثلاثي الشيعي – الكردي – السنّي، إلا بعد أن تعاد رغم هزيمتهم الانتخابية مكانة “الكتلة الشيعية الأكبر” وهي التي تُرشح رئيس الوزراء، وسطّروا مصطلحات شعبوية هزيلة على الساحة الإعلامية مثل: أم الولد، رفض التهميش الشيعي، الثلث المُعطل، وقد تأتي في ذات السياق عبارة بيت الطاعة.
الاختلال والتفكك التاريخي في تحالفات الأحزاب الشيعية مع القيادات الكردية، ثم في ما بعد مع بعض القوى الشيعية النافذة في الشارع (مقتدى الصدر) حصل بعد ما أفرزته نتائج انتخابات أكتوبر 2021
بعض عباقرتهم الاستراتيجيين يُلقّنون بترويج مقولة إن ما يحصل من تغيّرات في المشهد السياسي العراقي ناتج عن حالة صراع إقليمي بين إيران من جهة، والخيار العربي المتحالف مع تركيا من جهة أخرى، وهذا يتطلب أن السلطة العليا في العراق في الأيام المقبلة يجب أن تولد من رحم الخامنئية الإيرانية حصرا للحفاظ على تبعية العراق المطلقة لطهران.من مظاهر الهلوسة الطائفية، لما بعد هزيمتهم الانتخابية ورفضهم نتائجها، تجديد حربهم الطائفية ضد ممثلي العرب السنة وهم شركاؤهم، لكنهم يفرضون الإذعان بمختلف الأساليب، هذا ما يدفعهم إلى فتح نار مركبة سياسية وإعلامية وعسكرية على رئيس البرلمان محمد الحلبوسي لأنه تحالف مع الصدر وبارزاني، تناغما مع تأجيل طهران لزيارته التي كانت مقررة الأسبوع الماضي.
جانب لوجستي مهم له ارتباط بنفس اللعبة الطائفية، يتعلق بتنفيذ المخطط الاستراتيجي الإيراني الكبير في العراق، في تغيير ديموغرافية المحافظات العربية السنية، بواسطة الميليشيات المسلحة وتدفق مئات الألوف من الإيرانيين وبعض الوافدين من المحافظات الجنوبية وإسكانهم بغطاء طائفي، وفرض حالة حكم العسكرة الميليشياوية في تلك المدن. أمثلتها في سامراء حيث يشرف السفير الإيراني مسجدي مباشرة على إزالة وتغيير وتحوير المعالم الأثرية الرئيسية التي ترمز إلى العصر العباسي، المحمية من قبل منظمة اليونسكو باعتبارها من التراث العالمي، متعمدا توزيع صوره قبل أيام وهو يعتلي العتبة الأولى من ملوية سامراء، كذلك مسلسل التغيير الديموغرافي التدريجي في تكريت وديالى والموصل والأنبار وحزام بغداد.
حاليا تبرز عمليا معوّقات مشروع التغيير الديموغرافي في الأنبار ذات الحساسية الجيوسياسية التي تشتغل عليها إيران في بناء خط طهران – الأنبار – الأراضي السورية ثم السواحل اللبنانية. لهذا يعمدون إلى تعميم مظاهر مذهبية خرافية متخلفة تنشر هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي، تترافق مع الحملة الطائفية على أهل الأنبار، فيها إساءة لتاريخ ومكانة الإمام علي بن أبي طالب، مثال فيلم يصوّر اكتشاف قادة من الجيش أحدهم برتبة عقيد ركن لبئر أسموه “قنطرة الإمام علي” في جزيرة الأنبار يتدفق منه الماء ويظهر على جانب الحفرة شق سماه العسكري المتحدث آثار ضربة سيف الإمام علي كذلك آثار أقدامه. قد يتحوّل هذا الموقع في مقبل الأيام إلى معلم للتعبّد لإضفاء المظهر الشيعي على أرض الأنبار.
الخلاصة إن اللعبة الطائفية في العراق الآن تأكل أصحابها، إذا ما صمد الصدر في تحالفه مع السنة والكرد في الأيام المقبلة بوجه اللعبة الطائفية وأصحابها، فلن يتمكنوا من الصمود السياسي وقد يلجأون إلى خيار الفوضى بعد تخليهم عن الكنز الذي قدمه الأميركان في الديمقراطية التي لا يؤمنون بها.
“صحيفة العرب”