في الأسبوع الثالث من شهر أيلول الفائت أعادت فرقة “السلطان مراد”، المنضوية في “الجيش الوطني” المعارض، فتْحَ معبر “أبو الزندين” مع قوات الأسد، لساعات قليلة قبل مجيء أوامر بإغلاقه. أغلب الظن أن قيادة الفرقة استعجلت جني المكاسب من فتح المعبر، أو استعجلت التنافس للسيطرة عليه فقررت فتحه لتبقى مسيطرة عليه بحكم الأمر الواقع. في الأسبوع الذي تلاه، برز خبر إزالة سواتر ترابية بين سرمين وسراقب، تمهيداً لافتتاح معبر بين هيئة تحرير الشام ومناطق الأسد.
في الأيام الأخيرة عاد حديث المعابر، وفي الخلفية كما هو معلوم المباحثات بين المخابرات التركية ونظيرتها الأسدية، والحديث عن تقدم يتضمن فتح معابر بما يتجاوز بكثير وجودها القديم كمنافذ للتهريب بين الطرفين. فتجارة التهريب القديمة كانت في حيز الإنكار علناً، مثلما كانت خلسةً في إطار التواطؤ لحاجة مختلف الأطراف إليها، بما في ذلك أشخاص مضطرون لدفع مبالغ ضخمة للتنقل بسبب توزع العائلات على الجانبين، أو مزارعون جزء من سوقهم التقليدي في الجهة الأخرى، وبيع محاصيلهم بسعر زهيد لتجار التهريب أهون من تكديسها أو إتلافها.
المتوقع من فتح المعابر مجدداً أن يكون أكثر “مأسسة” من قبل، وأن يكون متعدد الاستخدامات لدى كلٍّ من طرفيه. في جهة الأسد، ما لم يتدخل بقوة أحد من حليفيه، من المتوقع اشتداد التنافس ضمن الحلقة الضيقة للسلطة على التجارة المقبلة، خاصة إذا كانت هناك محاولة لتحجيم أرباح الفرقة الرابعة ذات الباع الطويل في هذا النشاط. التجارة المنتظَرة لن تقتصر على تنشيط ما كان في إطار التهريب سابقاً؛ الأهم والأكبر فيها استئناف الخط التجاري مع تركيا، لتستفيد الفصائل المسيطرة على الشريط الحدودي مما يمكن تشبيهه برسوم الترانزيت، وليستفيد تجار وصناعيون أتراك صغار كانوا قد تضرروا من انقطاع الود بين أنقرة والأسد.
من المنتظر أن تستخدم أنقرة هذه التجارة للاصطفاء ضمن الفصائل الكثيرة التابعة لها، وتسليم المعابر للأكثر قرباً من أنقرة. قد لا يكون ذلك على نحو تقديم مكافآت للأشد قرباً وولاءً، بل ربما تُراجعُ أنقرة سياستها المالية بأكملها إزاء المعارضة وفصائلها، بحيث تتولى عائدات المعابر جزءاً كبيراً من تمويل هذه الفصائل. ولا يُستبعد التركيز على هذا الجانب، وإبرازه إعلامياً، لطمأنة الشارع التركي الذي يشكو اقتصادياً بأنه لا يدفع كلفة الفصائل العسكرية فوق شكواه المزمنة من اللاجئين. استكمالاً لهذه السياسة، وقد بدأت تظهر للعلن مع تخفيض تمويل الائتلاف، لن يكون مستغرباً التخلص من فائض المقاتلين في الفصائل التي لن تكون لها حصة من تجارة المعابر.
من دون اعتبار الفصائل المستبعدة من تجارة المعابر عقبة أمام السياسة التركية، ستكون استفادة الفصائل الأخرى متلازمة مع القبول بفكرة التطبيع مع الأسد. العلاقة التجارية ومكاسبها للجانبين ستتكفل بالتطبيع، وهذا مدخل مهم إذا اتجهت النوايا لاحقاً إلى مزيد من التأقلم مع الخطاب التركي المستجد، الذي يعترف بشرعية الأسد وسيادته وما يُبنى عليهما.
المصالح الاقتصادية المباشرة هي أفضل وسيلة لوصل ما انقطع، إذا تحققت المصالح بمعابر “شرعية”، لا عبر التهريب الذي لا يكسر الحواجز النفسية. وهذا مسار مطلوب من الذين يريدون استعادة وحدة سوريا، كأولوية متخففة من شروط التغيير الديموقراطي، وهو مسار مضاد للمسارات المختلفة التي اتخذتها المناطق السورية بحسب الجهة المسيطرة على كلٍّ منها. الوضعية التي تشبه التقسيم والانفصال، والتي صارت أمراً واقعاً مع التمايزات الواسعة التي تبدأ بالسياسة وغطاءاتها الأيديولوجية ولا تنتهي باختلاف جذري في مناهج التعليم، هذه الوضعية باتت في السنوات الأخيرة تُعتبر تحدياً حقيقياً أمام استعادة وحدة التراب السوري، وهي متوَّجة بانقسام نفسي معمَّم ودرجات عداء متبادل صارت من بديهيات العيش.
ولكي لا نرمي موضوع المعابر، بحمولاته المادية والمعنوية، على سياسة أنقرة المستجدة يجدر التذكير بأن هذه التجارة عمرها عشر سنوات، وهناك العديد من الفصائل المشمولة الآن بالنفوذ التركي لها تجارب سابقة من التجارة مع رجالات الأسد في الجانب الآخر. قيادة فصيل العمشات مثلاً ليست الوحيدة المتهمة بالمشاركة في تجارة النفط في ريف حماة، قبل ترحيل الفصيل إلى الشمال، فقد سبق لجبهة النصرة أن سيطرت على حقول للنفط وباعت منه للأسد، وسبق أن استولت على مخزونات من مطاحن “عامة”، وباعت الخبز بأسعار معتدلة، لتكسب الأموال ببيع ما استولت عليه مع سمعة التنظيم المنضبط غير الفاسد!
قبل نحو عشر سنوات برز اسم كان يُعتبر من الواجهات “الاقتصادية” لآل الأسد كوسيط في العلاقة مع الفصيل الأكبر في غوطة دمشق الشرقية، وشاعت آنذاك روايات منفصلة عن النفق الذي يربط الغوطة بالحدود الفاصلة عن سيطرة الأسد، ليكون معبراً للتجارة المضبوطة بسياسة “الجوع أو الركوع”. وكان حينها ثمة اتفاق “جنتلمان” بأن يستفيد تجار الحرب على الجانبين من النفق، بلا تلاعب من هنا أو هناك، خاصة لصالح الأهالي المحاصرين.
في مخيم اليرموك، كان هناك فصيل فلسطيني معتمد من الأسد لمواجهة فصائل معارضة وأخرى إسلامية، وقد أتى الفصيل بأحد كوادره من لبنان للاستفادة من خبرته في الحرب الأهلية. ذلك القيادي سرعان ما فتح خط التبادل مع قادة الفصائل المعارضة، وبطريقة مكشوفة بدت غريبة و”سبّاقة” آنذاك، وقلائل انتبهوا إلى مجيئه من فهم متقدم لما يكون عليه حال الجبهات والمتاريس عندما تستقر لوقت طويل، وعندما تنشأ مصالح متصلة بالحدود التي ترسمها المتاريس، من دون وجود نوايا لتجاوزها.
هو حال الحروب وتجارها عموماً، ينكشف عندما لا يبقى من هدف أعلى لها، وعندما تبرد الجبهات وهمم المرابضين فيها. في الحالة السورية، بدأ ذلك كله مبكراً، ومنحت وحشية الأسد مع المعاناة القصوى للضحايا أفضل غطاء لتجار الحرب وتركهم بعيداً عن صدارة الاهتمام. كونُ هذا من طبيعة الحروب طويلة الأمد يؤشر إلى الاصطفاء الذي يحدث غالباً، الاصطفاء المعكوس عما كان محط الآمال. لذا لن يكون عاطفياً، ولا منحازاً لهم تحديداً، القول أن السوريين يستحقون لصراعهم خاتمة أفضل من معابر مفتوحة بين أمثال أبي عمشة والجولاني والأسد.
“المدن”