كانت الكلمات الشعرية التي تغنت بحياة الملك (شولجي) بمثابة نشيد وطني، كما أكد فرانكو داغستينو على ذلك في كتابه «السومريون» الصادر عن دار شهريار2022. وهو بمثابة التغني بالوطن وبالأمجاد الصانعة للحياة، ومنهم الملك (شولجي)، وعكس صورة انتمائه للوجود السومري. وهنا يمكن التأكيد على أن النص المذكور هو عبارة عن قصيدة تمجد الملك وتصف الحياة والعلاقات بين الآلهة وبقية الرعايا. فلو راجعنا ديوان الشعري السومري ترجمة قاسم الشواف لاستوقفتنا معظم القصائد ذات الجزالة اللغوية والرصانة في السبك الشعري. كما أن الشعر يعكس اهتمامات متعددة في الحياة والعلاقات، بروح شعرية خالصة، على سبيل المثال نرى في عنوان الجزء الأول صورة للغة الشعر العالية (أعطني… أعطني ماء القلب) وهذا وحده خطاب ذو احتواء واسع للمشاعر الإنسانية. لقد دأب الشاعر السومري على ملاحقة تطور الحياة وظهور حالات تؤثر سلباً فيها، كما كان موقف الشاعر زمن تخريب أرض سومر على يد العيلاميين، في قصيدة مطولة تحت عنوان «رثاء أُور». وقد كان للآلهة والملوك الحصة المناسبة في فعل الشعراء، كما هي لوصف الطبيعة والرموز. ولعلنا نؤكد أن هذه القصيدة قيلت بحق الملك ومنجزه، وهو الملك. كما يؤكد على جزالة اللغة السومرية وجمالية تعبيرها من خلال التغني بمباهج الحياة. فقد اهتم السومريون باللغة وتراكيبها، حيث تعرضت الدراسات المبكرة لهذا الجانب الحضاري، الذي تمثل في الحضارة السومرية التي تُعد أُولى الحضارات. وهو ما أكدته دراسة الأُصول الأُولى للحضارات، من خلال البحث والتنقيب عن الأُسس التي بنيت وشُيدت عليها الحضارة السومرية، يُعد جهداً يعمل على تقديم النوع لتاريخ الحضارات في العالم، فمنذ ما قدمه أنطونيو دي جويكا في كتابه الذي نُشر في لشبونة عام 1611، ومن بعده خطى خطوته الدبلوماسي الإسباني دون جارسيا سيلفا فيجورا بكتاب عام 1620، الذي أكد من خلاله على العلامات الهرمية لشكل الخط المسماري تعود إلى كتابات تختلف عن الكتابات الآرامية، العبرانية، العربية والإغريقية. ومن الإضافات النوعية الأُخرى كتاب صموئيل نوح كَريمر، حيث درس حياة وتطور ومنجز السومريين على الصعيد الإنساني، كذلك الباحث الآثاري نائل حنون في كتابه «حقيقة السومريين». وغير هذا مما تناوله الباحثون كفراس السواح مثلاً.
كل هذه الاهتمامات انطلقت من أهمية اللغة في تطور المجتمعات. ولعل اللغة المسمارية التي بدت للبعض عبارة عن مجموعة رموز وأشكال فقط، بينما الحقيقة وكما أكد نائل حنون في كتابة «المعجم المسماري»؛ كونها لغة تستند إلى كل مقومات اللغات الأُخرى من نحو وصرف وآداب متنوعة، كذلك ملاحم وقصص وحكايات. فاللغة مقوم لكل مجالات الحياة، لأنها تنطلق وتقوم على نشاط العقل وأوليته، حيث يعمل عل تنظيم الوجود الإنساني. والتفاتة بسيطة إلى منجز السومريين، وبالأخص في الشعر، نجد في ما تركوه لنا خير دليل (ينظر في هذا ديوان الشعر السومري/ترجمة قاسم الشواف). لذا كانت مباحث كل هؤلاء العلماء تبدأ من حقل اللغة ووظيفتها، وصولاً إلى ما طرحه فرانكو داغستينو في كتابه المعنون «السومريون»، مؤكداً مجموعة من التخريجات الميدانية كباحث وآثاري دؤوب. وحقل اللغة أخذ منه حيّزاً مناسباً قدم عبره استنتاجاته بشأن اللغة المسمارية التي ابتكر أُسسها السومريون حصراً وطوروها ووضعوا لها الأُسس العلمية، حيث دونوا منجزهم العلمي والأدبي والقانوني على الطين، ومن أجل استخدام أمثل للعقل بشأن إدامة مدوناتهم، عملوا على معالجة اللقى بواسطة أفران أكسبتها الصلابة والديمومة.
وقد أكد فرانكو على أن السومريين كانوا يمثلون نقطة تحول بين عصور ما قبل التاريخ والتاريخ قدموا لنا شهادة أُوَّل صرخة للإنسانية التي أسست لبناء الحياة على كل الأُسس. فالمنطق يقول ويذكر أن الوجود مبني على منطق الصراع بين الأطراف، بمعنى صراع بين أطراف البنى الفكرية للوصول إلى الأجدر في بناء الحياة وفق نُظم يحققها العقل.
لقد أكد داغستينو في بحثه بشأن اللغة على أن السومريين بجهودهم استطاعوا أن يقدموا نظرتهم الفكرية التي يعمل العقل على إنتاجها، فهم وكما ذكر.. قدموا مفهوماً محددّاً للكون بصدد شرح دور الإنسان في الخلق، إضافة إلى كونه مبحثاً اجتماعياً، عبّر عن الظواهر من زاوية المنطق الفلسفي الخالص. لقد انطلق السومري وكما ذكر فرانكو من مراجعة الإنسان لنفسه، باعتباره كائناً مخلقاً للقيم الفكرية التي تبني الحياة، ومن ثم تفسير الكون ككيان عقلاني واسع. فالوعي الذاتي ركيزة أساسية في فهم أُسس الوجود، وبالتالي بناء أُسس بناء الحياة، وهذا ما عمل عليه الإنسان السومري بامتياز. فوعي الذات يعني وعي الكون وما يُحيط بالوجود، فهو أي الإنسان انتقل نقلة نوعية من كائن خامل إلى كائن مخلّق. وهذا تأكيد على أن الأُسس العلمية للفكر السومري أنتجت مفاهيم أخلاقية وتقاليد اجتماعية وسياسية واقتصادية. ومن هذه المتون الفكرية عالج العقل السومري العلاقة بين الإنسان والآلهة. فالأُسطورة السومرية تؤسس الواقع المرئي وغير المرئي؛ الطبيعي والثقافي. فهي أي الأُسطورة خالقة لكل المتون الفكرية والأخلاقية، فهي ليست مجرد حكايات وقص فقط.
لقد وفر الفكر السومري للإنسان مجالات حيوية، فهو وبفضل ما تسبغه الآلهة له، قادر على التفسير لما يبدو غير موجود، ومن ذلك الأكثر وضوحاً هو المفهوم المنطقي. وقد تجلت هذه المعارف والمساعي لتطوير المجال الذي يتحرك من خلاله الإنسان السومري، هو دوره في بناء الحياة، ومنها تأسيس العمارة وتأسيس المدن على أُسس علمية خالصة، خاصة الاستناد إلى الأُسس الهندسية وإشاعة التعدد في الفكر والمنطق، الذي تستند إليه الجهود المؤسسة للحياة. كذلك تأمين أُسس مهمة لتطور المدن من خلال تأسيس علامات تُشير إلى ديمومة المدن وتطورها عبر الأُسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي تنظيم الواقع إداريا. وهو تخريج فريد لإشراك الإنسان في صناعة أسس الحياة الاجتماعية عبر التشكل الأُسري.
وقد أكد فرانكو على أن السومريين كانوا يمثلون نقطة تحول بين عصور ما قبل التاريخ والتاريخ قدموا لنا شهادة أُوَّل صرخة للإنسانية التي أسست لبناء الحياة على كل الأُسس. فالمنطق يقول ويذكر أن الوجود مبني على منطق الصراع بين الأطراف، بمعنى صراع بين أطراف البنى الفكرية للوصول إلى الأجدر في بناء الحياة وفق نُظم يحققها العقل. وقد تجسد هذا في معظم الملاحم، وفي مقدمتها ملحمة جلجامش، التي بنيت على أساس التفاوت في الرؤى بين الأطراف التي تُدير عجلة حاضرة (أوروك) صراع دائر بين القوى المدنية ومجمع الآلهة (المعبد) وقد بلغ ذروته في حضور (أنكيدو) إلى الحاضرة، وفق رؤى بناء الملحمة فنياً. ولكن البناء الفكري هو الأهم، أو المسكوت عنه، والقائل إن أنكيدو وافد عقلي وليس حيواناً دجنته المحظية (شمخت) والأدلة كثيرة، ابتداء من صرخته القائلة (أنا الأقوى، سأغير المصائر في أُوروك)، وما لحق ذلك في الرحلة إلى غابة الأرز وقتل (خمبابا)، ثم الرحلة إلى بحر الظلمات، حيث (أتونبتشم) للحصول على نبتة الخلود. هذه المداولة حققها العقل من خلال التأكيد على سيادته كموجه في تأسيس الحياة.
إن كتاب فرانكو وغيره، إضافة نوعية ساهمت في دراسة الأسس العلمية لتطور الحضارة السومرية في بناء حضارات عالمية عبر كونها حضارة تكمن إنسانيتها وشمولها في تفاصيلها وأغراضها الكثيرة. ومن اهتماماتهم هي الفنون كالنحت والموسيقى. لعل الثانية أساساً كامنة في اللغة وإيقاعها في الشعر، فابتكار القيثارة خير دليل على تطور فني، لأنها كآلة موسيقية بحاجة إلى لغة تدوين، والنوتة هي الأساس في تسجيل دأبهم على الابتكار. ومنها أيضاً العمل على تخليد اللقى والنصب عبر تعرضها لحرارة الأفران (الشي) لتزداد صلابة، وبالتالي أكثر خلوداً. وقد أثبتت الحفريات والتنقيبات على ركون السومري إلى العقل في ابتكار ما يذلل الصعوبات ومنا ابتكار القوانين والأُسس العلمية للفنون. لقد وفر الفكر السومري للإنسان مجالات حيوية، لعله وبفضل ما تسبغه الآلهة عليه، قادر على التفسير لما يبدو غير موجود ومن ذلك الأكثر وضوحاً هو المفهوم المنطقي. وقد تجلت هذه المعارف والمساعي لتطوير المجال الذي يتحرك من خلاله الإنسان السومري، هو دوره في بناء الحياة، ومنها تأسيس العمارة وتأسيس المدن على أُسس علمية خالصة، خاصة الاستناد إلى الأُسس الهندسية وإشاعة التعدد في الفكر والمنطق الذي تستند إليه الجهود المؤسسة للحياة. كذلك تأمين أُسس مهمة لتطور المدن من خلال تأسيس علامات تُشير إلى ديمومة المدن وتطورها عبر الأُسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي تنظيم الواقع إداريا، وهو تخريج فريد لإشراك الإنسان في صناعة أسس الحياة الاجتماعية عبر التشكل الأُسري.
كاتب عراقي