أسفرت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في أيلول (سبتمبر) عن قراءات وتأملات عديدة، لا سيما حول إمكانية تعويض الغاز الروسي بالغاز الجزائري. لكن هوة كبيرة تفصل بين الحلم والحقيقة.
- * *
بداية شهر أيلول (سبتمبر)، خلال مداخلة تلفزيونية، قام صحفي شاب يعمل بجريدة “لو باريزيان” (إحدى الصحف اليومية الأساسية في فرنسا) بمقاربة بين حجم الإنتاج الجزائري للغاز الطبيعي سنويا (90 مليار متر مكعب)، وحجم الإنتاج الروسي (115 مليار متر مكعب)، ليوحي في خطابه بأن الحل لتعويض الغاز الروسي قد يوجد في الجزائر. طبعا، يحمل هذا التصريح أوهاما كثيرة؛ إذ يتراوح إجمالي إنتاج الجزائر من الغاز بين 130 و140 مليار متر مكعب، جزء منه (بين 30 و40 مليارا) غير مسوق، بل يُعاد ضخه للحفاظ على الضغط في رواسب تقادمت. كما يبلغ عمر حقل حاسي مسعود الذي يوفر نصف إنتاج النفط الخام أكثر من 65 عامًا. ويتم حرق جزء آخر من الغاز في عين المكان، وهو معدل من بين أعلى المعدلات في العالم وفقًا للبنك الدولي.
أسعار مدعومة من الدولة
هكذا، لا يبقى سوى 100 مليار متر مكعب تقريباً صالحة للتسويق. 49 مليارا منها تذهب للاستهلاك الداخلي النشط للغاية، لا سيما من أجل إنتاج الكهرباء، وذلك بسبب الأسعار المنخفضة جدًا التي يدفعها المستخدمون. ورغم المحاولات المتكررة -لمدة عشر سنوات- للرفع منها، لم يُجد ذلك نفعًا. ففي كل مرة، تتراجع السلطة، ويبدو أن على الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، ذلك “السياسي العسكري”، أن يقتفي أثر أسلافه. بلغ التضخم أرقامًا قياسية (أكثر من 10 % حسب توقعات العام الحالي)، وسيكون من الخطير -اجتماعيًا- إضافة زيادة أخرى في الأسعار، والحال أن نسبة البطالة تناهز 15 % من السكان النشطين.
بقي ما بين 50 و60 مليارا متوفرة للتصدير. تحتكر إيطاليا وإسبانيا، وهما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان المتصلتان بالجزائر عبر خطوط أنابيب الغاز، ثلثي هذه الكمية، 27.26 مليار لروما و10.5 لمدريد. يتم تصدير جزء آخر عبر الناقلات على شكل غاز طبيعي مسال، حوالي 17 مليار متر مكعب موجهة إلى تركيا (48 %) وإلى خمس دول أخرى، من بينها فرنسا (20 %). خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في نهاية شهر آب (أغسطس)، تحدث عدد من المقرّبين إليه ومن الصحفيين عن زيادة حجم التصدير إلى فرنسا بنسبة 50 %. وهو رقم مذهل عموماً، ولكن لو نسبناه بالنظر إلى الرقم الذي ننطلق منه (3 مليارات متر مكعب)، فإن ذلك يعني زيادة قدرها 1.5 مليار متر مكعب، وهو رقم سخيف مقارنة بالاحتياجات الفرنسية (41 مليار متر مكعب).
على المدى القصير إذن، لا تستطيع الجزائر لعب دور الاحتياطي، ولكن يمكنها على المدى المتوسط الترفيع من صادراتها، من خلال زيادة إنتاجها للمحروقات. لا تملك شركة سوناطراك الوطنية رأس المال اللازم للاستثمار، ما يجعل الشراكة مع الشركات الأجنبية حتمية. لكن في أي ظروف؟ فمنذ العام 2006 والإصلاح الليبرالي الفاشل لوزير الطاقة شكيب خليل، الذي حكم عليه بالسجن 20 عامًا غيابياً، أصبح الشركاء الأجانب نادرين. ولم يتم اعتماد قانون جديد للنفط، أكثر ملاءمة من حيث الضرائب، سوى في كانون الأول (ديسمبر) 2019؛ أي بعد أشهر قليلة من استقالة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة وفي خضم أزمة سياسية. وكانت الجزائر إلى حين ذلك الوقت من بين البلدان التي تسجل أعلى نسب للضرائب في العالم. إضافة إلى ذلك، يجب أن تمتلك الشركة الوطنية 51 % من الترخيص، والأغلبية في لجنة الإدارة المشرفة. ويقوم كل من الشريك الأجنبي ومن سوناطراك بتمويل حصتهما من الاستثمار واستعادتها من المبيعات، بمجرد اكتشاف الحقل.
تحمل مسؤولية الاستثمار في الجزائر
الاختلاف الوحيد -لكنه اختلاف رئيسي- هو أن الشركة الأجنبية تتحمل جميع النفقات ولا تسترد استثماراتها إلا إذا نجح التنقيب. وتتعلق الخلافات -التي عادة ما تكون متكررة وطويلة ويصعب التغلب عليها- أساسًا بالحسابات، وبتفسير اتفاقية مشاركة الإنتاج الأولية. تم توقيع ثلاثة عقود منذ العام 2019؛ أحدها مع شركة “سينوباك” الصينية، والآخر مع شركة “إيني” التي ستستثمر 4 مليارات دولار في التصريح الخاص بحوض بركين جنوب، كما تم تمديد عقد آخر لمدة 25 عامًا بين “إيني” وشركة طوطال للطاقة و”أوكسي” الأميركية.
في مواجهة شركة “إيني” التي تجمع بين الإنتاج الاستكشافي والتوزيع -الجزئي على الأقل- للغاز، يمكن اعتبار الشركات الفرنسية معاقة. شرعت طوطال في التوزيع لكنها لا تحظى سوى بشبكة متواضعة للإمداد، خاصة خارج فرنسا. أما شركة “إنجي” -التي كانت مديرتها العامة كاثرين ماك غريغور هي الممثلة الوحيدة لعالم النفط في الوفد الرسمي المرافق للرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته للجزائر العاصمة- فهي تقتصر اليوم على التوزيع، بعد أن تم بيع فرعها الاستكشافي والإنتاجي في العام 2017 إلى شركة “نبتون إنرجي” البريطانية. ما يعني أن عليها أن تجد مشغلًا جاهزًا لتحمل مخاطر الاستثمار في الجزائر. وتعاني البلاد من سمعة سيئة في هذا المجال بسبب السيطرة الشديدة التي تفرضها على شركائها، ما يدفع بالعديد من الشركات الأجنبية إلى المغادرة. ونجد كمثالين أخيرين على ذلك شركتان بريطانيتان؛ الأولى هي BP التي استحوذت عليها “إيني”، والثانية هي Petroceltic، وهي اليوم في نزاع مع سوناطراك.
ما يزيد العملية صعوبة بالنسبة إلى الفرنسيين هو استباق ماريو دراغي، رئيس المجلس الإيطالي، الأمر، وحصوله على وعد (افتراضي) بتسليم 9 مليارات متر مكعب من الغاز ابتداءً من 2023-2024. يستغرق البحث عن رواسب جديدة وتطويرها وقتًا لا بأس به، قد يصل إلى 10 سنوات أو أكثر. قد يشكل تدهور العلاقات بين الجزائر وإسبانيا بعد تغيير مدريد لموقفها من قضية الصحراء الغربية، فرصةً على المدى القصير. علماً أنه يوجد نزاع خطير بين الطرفين حول الأسعار التعاقدية المرتبطة بأسعار النفط الخام والمنتجات المكررة. وقد أفادت الصحافة الجزائرية عن رغبة حكومتها في وقف عمليات التسليم في حال حدوث انقطاع. إن حدث ذلك، فسيكون هناك 10 مليارات متر مكعب متاحة لمشترين آخرين. هل سيعيش الاتحاد الأوروبي، بسبب أزمة الغاز، الاضطرابات والتنافسات نفسها التي شهدتها دوله الأعضاء في بداية أزمة أخرى، هي أزمة “كوفيد 19” في العام 2020؟
*جان بيار سيريني: صحفي ومدير سابق لمجلة “لو نوفيل إيكونوميست” Le nouvel Economiste ورئيس تحرير سابق لمجلة “الإكسبريس” L’Express. له كتب عديدة حول مواضيع مختلفة منها المغرب العربي والخليج والطاقة وأرباب العمل والجمهورية الخامسة.
*ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.
“الغد”