كان إعلان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله “انتصاراً كبيراً للبنان كدولة وشعب ومقاومة” متوقعاً بعد الانتهاء من توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. الإعلان في محله لأن التنظيم لعب دوراً أساسياً في المفاوضات، إما على مستوى تهديد الجانب الإسرائيلي أو لناحية دعم المفاوضات سياسياً وتأمين غطاء لإتمامها. والخروج باتفاق بين طرفين غير متساويين عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً (وفي تحالفاتهم الخارجية، عربياً وغربياً)، إنجاز سياسي بغض النظر عن النقاش حول الخط 29. أساساً طرح هذا الخط، وإن كان عمره شهوراً فقط، لعب دوراً في الدفع باتجاه الحسم لمصلحة لبنان في السياق القائم للمفاوضات، إذ حصل لبنان على حصته كاملة من الخط 23.
لكن في المقابل، ليس صحيحاً كلام نصر الله وحلفائه عن نفي التطبيع عن الاتفاق. في نهاية المطاف هذا الاتفاق بين الجانبين، حتى لو لم يلتقيا بشكل مباشر، يتضمن اعترافاً ضمنياً بإسرائيل، بما أنها تمثلت في المفاوضات بقيادتها السياسية المعترف فيها دولياً. لم تخض الدولة اللبنانية مفاوضات مع الجانب الفلسطيني في عملية الترسيم، لسبب بسيط وهو أن سفارة فلسطين أو وزارة خارجيتها أو رئيسها لا قدرة لديهم على تنفيذ أي اتفاق، ولا اعتراف بأي توقيع لهم عليه. بل حتى الجانب الرسمي الفلسطيني يعترف وفقاً لاتفاق أوسلو بأن الطرف المعني على الحدود مع لبنان هو إسرائيل. لهذا فإن نفي الاعتراف عن هذا الاتفاق، هو سذاجة سياسية ومحاولة للالتفاف على الواقع، سيما أننا لسنا أمام هدنة بين طرفين متحاربين، بل أمام حل لنزاع حدودي بين طرفين معنيين.
وهذا الكلام ينسحب أيضاً على آثار الاتفاق وانعكاساته، وتحديداً على مستويين. أولاً، على مستوى النقاش السياسي الداخلي، يُطرح السؤال الآتي: لماذا لا نلجأ الى حل النزاعات الأخرى من خلال المفاوضات بدلاً من الحرب، وربما عبر استنساخ دعم “حزب الله” ودوره في الاتفاق الأخير؟ عملياً، وضعت المفاوضات الحالية سياقاً جديداً للحلول في لبنان، وكسرت محرماً كبيراً كان قائماً في السياسة، تحت عناوين مختلفة منها “وحدة المسارين” (كان على لبنان انتظار حل في سوريا قبل الدخول في مفاوضات كورقة بيد دمشق وليس كدولة ذات سيادة).
المستوى الثاني هو “حزب الله” نفسه. اهتمام التنظيم بهذا الاتفاق ليس عبثاً. الحزب يعرف جيداً بأن عائدات الغاز لن تأتي سريعاً، وبأن الانهيار اللبناني يحتاج لجهود أسرع على مستوى الإصلاحات وربما انفراجة إقليمية تُتيح حزمة استثمارات ومساعدات أوسع نطاقاً من بضعة مليارات يُقدمها صندوق النقد الدولي.
إذن، لماذا قرر “حزب الله” الدخول في هذا الاتفاق؟ إضافة إلى أي فوائد من الاستثمار في قطاع الغاز مثل استعادة بعض الثقة بالقدرة على النهوض، النتيجة الأساسية هنا هي الهدوء على الحدود الجنوبية. الاتفاق عامل تهدئة ليس فقط على مستوى البحر، بل براً كذلك.
التنظيم لم يعد بحاجة للحدود والتوتر عليها، بما ان دوره الإقليمي اتسع بشكل كبير. إذا كان موجوداً في سوريا وعلى تماس مع إسرائيل هناك، وفي العراق عبر حلفائه ومستشاريه ودوره السياسي، وفي اليمن عبر علاقته مع الحوثي (ودوره الاستشاري مع الحركة). لبنان بالنسبة للتنظيم قاعدة عمل من الضروري الحفاظ على بعض الاستقرار فيها، للتفرغ لأشغال أخرى على المستوى الإقليمي. المطلوب هدوء مديد على الحدود، من دون سلام أو تطبيع، بما يُتيح هامشاً لاستمرار الخطاب الممانع.
هذا التحول في دور التنظيم يتطلب بعض التدقيق، إذ يتطلب هامشاً بالسياسة قد يتجاوز الاتفاق. هل ننتظر صفقات سياسية محلية خارجة عن المألوف؟ من الواضح أننا أمام “حزب الله” جديد، ومن الطبيعي توقع مقاربات مختلفة وربما صادمة بالسياسة.
“المدن”