ورغم هذا الإجماع، فإنّ الشخص السياسي أو “الكاتب التاريخي”، كما يسميه رولان بارت معلنًا موتَه، تعرّض إلى انتقادٍ رَئيس وُجّه إلى آرائه السياسيّة التي عبّر عنها في العديد من المناسبات الانتخابية، والتي توشك أن تكون دعمًا صريحًا لبعض مواقف اليمين المتطرّف في دول أميركا اللاتينية ومناهضةً عنيفة للتيّارات اليساريّة ولا سيما الشيوعيّة منها، وهي تشي برفضٍ يقارب إنكار مَبدأ “الجمهوريّة”.
ويبدو أنّ عامة متابعي الشأن الأدبي يفضّلون عدم الخلط بين المواقف السياسيّة والقيمة الأدبية لماريو فارغاس يوسا، والفصلَ التام بين المَجاليْن، وهو رأي له وجاهتُه، رغم أنّ خيارات يوسا اليمينيّة المتطرفة باتت علامة فارقة لا يخفيها. كما لا ننسى أنّ الرّجل كان قد ترشّح إلى الانتخابات الرئاسية في البيرو، بيد أنّه هُزم في الدور الثاني أمام المُرشحة الشعبويّة كيكو فيجيموري.
وإذا انتقلنا إلى صميم لغة الكتابة لدَيه، فقد أثار المناوئون لترشيحه، مسألة أنّ يوسا لم يكتب البتّة باللسان الفرنسيّ، رغم إتقانه له. فهو مقيم في باريس منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، وقد تشرّب نصوص الأدب الفرنسي الكبرى منذ طراوة شبابه، كما أنجز العديد من الدراسات حول الوجوه والتيارات الكبرى لهذا الأدب، مثل فلوبير. ومع ذلك فقد التزمَ، ومنذ صدور كتابه الأول “الجِراء”، العام 1959، الكتابة باللغة الإسبانية، وبها صاغ رواياته كلها ومحاولاته وحتى مقالاته السياسيّة.
ويكمن التعارض في أنّ الأكاديمية جعلت من أخصّ أهدافها الحفاظ على اللغة الفرنسية والاجتهاد في إنمائها وتطوير مُعجمها وتغذية مصادرها التعبيرية والتصويرية، وهو ما لم ينهض به هذا الكاتب، على الأقل، في مستوى آثاره المكتوبة، رغم وفرتها وتنوّع موضوعاتها. فما الذي شدَّ الأكاديمية إليه؟
من الجليّ أن هذه المؤسّسة أُخِذت بقدرة يوسا على التلاعب بسجلات القول ومستويات اللغة الإسبانية، فهو ينتقل من المستوى الفصيح حين يأخذ في السرد أو الوصف، ثم ما يلبث أن يصوغ حواراته باللهجة المحلّية، حيث تشيع الاستخدامات الدّارجة والصور الشعبية على ألسنة شخصياته التي أبدع في بنائها.
كما انْشدَّت إلى تحكّمه في الأجناس الأدبيّة وقدرته على التصرّف في أفانينها، انتقالاً من الجنس التاريخي إلى المَسرحي وحتى البوليسيّ، أو من خلال استعادات روائيّة تنتمي إلى جنس السيرة الذاتية عندما روى زواجَه الأول من “العمّة جوليا” (1977). وخاض يوسا في جنس الرواية التاريخية من خلال نصه “حرب نهاية العالم” (1983) التي اعتمد فيها على الأحداث الحقيقية لحرب “كاندوس” العام 1889، مضيفًا إليها العديد من الأمثلة الحيّة، وغيرها من الأعمال العديدة التي تجاوزت العشرين، فضلاً عن تأليفه في التحليل السياسيّ وصحافة الرأي التي يساهم فيها بانتظامٍ من خلال مقالاته في جريدة “إلباييس” الشهيرة.
وقد تميز الكاتب في كل هذه الأعمال السردية بقدرته على الغوص في أعماق شخصياته وسبر أغوارها السيكولوجية، مع ربطها دائماً بمظاهرها الخارجيّة والتركيز على مَلامحها وهيئتها، ما يضمن الولوج إلى أكوانٍ روائية طريفة وعوالم غيرَ متوقعة، تسحر بغرابتها وتؤنس بطرافتها.
هكذا، رغم الغبار الذي علا الأكاديمية وانتشر في أرجائها، فإنّ الرجل يظل وجهًا من أبرز كتّاب النّصف الثاني في القرن العشرين. فقد حاز جائزة نوبل للآداب العام 2010 من أجل تألقه في رسم “خريطة أبنية السلطة وأسلحتها الحادّة في مقاومة الفرد وتمرده وإلحاق الفشل به”، كما أنه اخترقَ دوائر المحظور عندما صوّر، على سبيل المثال، كيف كانت الدولة ترسل المومسات لإشباع رغبات الجنود التائهين في ساحات الوغى، في رواية “بونتاليون والزائرات”.
إذن، غَلَب الإقرار بالتألق الأدبي على جلبَةَ الجدل السياسي، وثَبَت أنّ الكلمة الراسمة لدفق الروح في صمودها أمام ألاعيب السلطة، أقدر من كل أجهزتها الخفية على رسم “الكذب” عبر الحقيقة، واكتشاف المعنى. احتفت هذه الأكاديمية بجهود عقود كاملة من السرد، نقلت العوالم الساحرة لأميركا اللاتينية إلى لسان فولتير، حتى غدت حكايات القرى البيروفية من ألذ ما يقرأه الجمهور، فتلقي به بعيداً من لغط السّياسّة… ومتابعات الأجهزة الضرائبيّة التي اتُّهم ماريو فارغاس يوسا بالتهرب منها.
“المدن”