ليس جديداً أن يفجّر الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش قنبلة حقائق مذهلة، معاكسة للتيار السائد في وسائل الإعلام الأمريكية، كاشفة عن الوجوه الأقبح في سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ وسائرة، استطراداً، على نقيض ما هو شائع أو مُشاع في يقين الرأي العام القياسي. ولعلّ الرجل اليوم هو صحافي الاستقصاء الأعلى كعباً في الولايات المتحدة، لأنه ضمن حصيلة عمله أبرع (في يقين هذه السطور) من أمثال بوب وودورد وكارل برنستين، اللذين كشفا فضيحة ووترغيت الشهيرة؛ وكذلك لأنّ أمثال البولندي ريجارد كابوشينسكي والإيطالية أوريانا فالاشي رحلوا عن عالمنا. سجلّه الحافل يبدأ من إماطة اللثام عن مذبحة «ماي لي» التي ارتُكبت في فييتنام بأمر من الضابط الأمريكي وليام كالي (قرابة 347 قتيلاً من المدنيين الفييتناميين)؛ ويمرّ بحقائق مجزرة الرميلة، التي ارتكبها الجنرال الأمريكي باري ماكيفري غرب البصرة في 2/3/1991 بحقّ «هؤلاء العراقيين الأوغاد» المنهارين المهزومين المنسحبين المتراجعين على الأوتوستراد 8؛ ولا ينتهي عند تفاصيل الهمجية الأمريكية في سجن أبو غريب العراقي، ثم فضح «مذكرات التعذيب» الإدارية التي كتبها أكاديميون على سبيل تزويد الإدارة بالمسوّغات القانونية للالتفاف على اتفاقية جنيف حول تحريم التعذيب.
كل هذا لا يعني أنّ هيرش لم ينزلق إلى هذا القدر أو ذاك من التضخيم أو الافتعال أو حتى الاختلاق، إنْ لم يكن على سبيل خدمة آرائه السياسية المخالفة هنا أو هناك، فعلى الأقل عملاً بمبدأ «خالِفْ تُعرف» العتيق الذي يحثّ على تدعيم المكانة والموقع، عن طريق الظهور والتظاهر؛ ولعلّ تحقيق هيرش، سنة 2013، بصدد استبعاد مسؤولية النظام السوري عن المجزرة الكيميائية ضد الغوطة الشرقية، واتهام المعارضة المسلحة بتنفيذها، هو المثال الأبرز على هذا النزوع. وفي كتابه «مذكرات محقق» الذي صدر سنة 2018 وأبان الكثير من نوازعه الذاتية في هذا أو ذاك من تحقيقاته الاختراقية الشهيرة، يشدد هيرش مراراً على تعاون بشار الأسد مع الاستخبارات الأمريكية من زوايا تنتهي إلى إطراء رأس النظام (وملامة إدارة جورج بوش الابن، لأنها كافأت خدمات الأسد بإضافتها إلى «محور الشر» الشهير)؛ كما يمتدح «تحرّق» الأسد إلى الاجتماع مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بما ينطوي عليه اللقاء من «تغيير» في علاقات النظام السوري مع إيران و«حزب الله» وحركة «حماس». لم يكن غريباً، قياساً على خلفيات مزاج هيرش بصدد النظام السوري، أن ينزّه جيش الأسد عن ضربة الغوطة الكيميائية، وألا يحمل تحقيقه ذاك ما اعتاد هيرش على حشده من وقائع وتفاصيل ومعطيات وملابسات.
ولعل تحقيقه الأخير، الذي يرقى كالعادة إلى صيغة القنبلة المدوية، يندرج في منزلة وسيطة بين التفضيح والاختلاق؛ ليس لأن حساسيته عالية، وقد تقود إلى مواجهة عسكرية شعواء لا تُحمد عقباها بين واشنطن وموسكو، فحسب؛ بل كذلك لأنّ هيرش هذه المرة لا يسوق الكثير، أو حتى الحد الأدنى الذي يكفي، من الوقائع والتفاصيل والمعطيات والملابسات التي تدعم فرضياته، وتُنهضها على أرضيات صلبة. التهمة خطيرة، مفادها أنّ الولايات المتحدة بالتعاون مع البحرية النرويجية هي التي خرّبت خط الغاز «نورد ستريم» في حزيران (يونيو) السنة المنصرمة. وضمن مادة مفصلة امتدت على أكثر من 5200 كلمة، نشرها على موقعه الشخصي (ربما لاعتذار منبره المعتاد، مجلة «نيويوركر» عن نشر التحقيق) روى هيرش أنّ زمرة من غوّاصي البحرية الأمريكية، وتحت غطاء مناورات الحلف الأطلسي، زرعوا متفجرات على الخط في عمق مياه البلطيق، تولت وحدات نرويجية خاصة تفجيرها بعد ثلاثة أشهر؛ وتوجه هيرش بأصابع الاتهام إلى ثلاثة مسؤولين في الإدارة: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومساعدته فكتوريا نولاند.
سؤال «لماذا يبقى هيرش مطلق السراح؟» نافل قضائياً، لأنه بالغ الحرج سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً؛ لكنه قائم، مشروع أو حتى ملحّ، إذا شاء المرء أن يضع مصداقية هيرش على محكّ ملموس، قاطع الأدلة وبيّن الوقائع
وبمعزل عن فيديو، مثير حقاً ولافت ودامغ في قليل أو كثير، يعود إلى مطلع شباط (فبراير) 2022 ويسجّل على الهواء مباشرة تصريحاً للرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، يقول فيه بالحرف إنّ إدارته قادرة على إغلاق أو إيقاف خط «نورد ستريم» إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا؛ ليس ثمة الكثير الذي يُعتدّ به في تقرير هيرش، وتلك خلاصة وقائعية لا تقود هذه السطور إلى نفي أو تأكيد سردية هيرش حول المسؤولية الأمريكية عن التفجير. الاقتصاد من جانبه، وحرص واشنطن على خنق الموارد الروسية من الغاز المصدّر إلى ألمانيا، مقابل ترويج الغاز الأمريكي في حال تعطيل «نورد ستريم» كلياً أو حتى جزئياً؛ يمكن، بسهولة مبررة، أن تُساق لصالح تأكيد تقرير هيرش، فالمليارات من الأرباح هنا تتضافر ببساطة مع المغانم الجيو ـ سياسية غير الضئيلة. يُضاف إلى هذا ما ينقله هيرش، عن «مصدر مباشر وثيق الاطلاع» على الملف، من أنّ خطة التفجير اختُزلت من مستوى العملية السرية التي تستوجب إطلاع الكونغرس، إلى أخرى صُنّفت تحت بند السرّية الاستخباراتية القصوى الخاصة بالقوات المسلحة.
الإدارة تجاهلت التقرير بالطبع، أو علّقت عليه في مستويات دنيا لم تتجاوز المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، التي اعتبرته «من نسج الخيال»؛ أو ناطق باسم وكالة المخابرات المركزية، رأى أنّ التقرير «كاذب على نحو مطلق». وزارة الخارجية النروجية، من جانبها، لم تتردد في وصم التقرير بـ«المزاعم الكاذبة» خاصة وأنّ هيرش يعيد التعاون الاستخباراتي بين النرويج والولايات المتحدة إلى عقود حرب فييتنام حين تولت أوسلو تزويد المخابرات الأمريكية بقوارب استُخدمت في عمليات سرية ضدّ جيش فييتنام الشمالية؛ وهي القوارب التي حوّلها البنتاغون إلى ذريعة للقصف المكثف والتدخل العسكري المباشر. غير أنّ التجاهل، أو استخدام اللغة الخشبية المعتادة في التكذيب، لا يطمس تفصيلاً حاسماً يكتنف نشر تقرير هيرش؛ يرتدي هذه المرّة طابعاً قضائياً صرفاً، قياساً على سوابق قانونية تخصّ متهماً مثل جوليان أسانج، المدان والمحكوم بـ175 سنة سجناً لمخالفات أقل مما ارتكبه هيرش مراراً، أو في تقريره الأخير حول تخريب أنبوب «نورد ستريم» على وجه التحديد.
«لماذا يبقى هيرش مطلق السراح، إذن؟» هكذا يتساءل مراقبون كثر إذْ يرصدون حقيقة كبرى ساطعة تقول إنّ هيرش يتفوق على أسانج في انتهاك معلومات عالية السرّية، وأنه مطالَب بكشف مصادره الإخبارية التي يتوجب أن تُحاسب قانونياً أيضاً على غرار شيلسي ماننغ التي مرّرت الأسرار إلى أسانج وكان جزاؤها الإدانة والسجن 35 سنة. الإجابة بسيطة، كما يقترحها الكاتب الأمريكي ستيف براون مثلاً: لأنّ إحالة هيرش إلى القضاء تعني، أول ما تعنيه، أنه أماط اللثام عن الحقيقة؛ الأمر الذي لن يضع سوليفان وبلينكن ونولاند وحدهم في قفص الاتهام، بل سيجر رئيسهم بايدن نفسه لأنه بالتعريف كبيرهم الذي يعلم بالسحر أو يعلّمه. الحرج أكبر، على أصعدة دبلوماسية وشعبية، لدى الحليفة ألمانيا بادئ ذي بدء، لأنّ تعطيل أنبوب الغاز يُلحق الكثير من الأذى بالصناعات الألمانية؛ وهذه عاقبة وخيمة لن تقتصر على ألمانيا، بل ستعبر الحدود إلى حليفات مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا والدول الإسكندنافية، على مستوى الشعوب ذاتها قبل الحكومات التي لا يُستبعد تورّطها في المخطط.
بهذا المعنى فإنّ السؤال، «لماذا يبقى هيرش مطلق السراح؟» نافل قضائياً لأنه بالغ الحرج سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً؛ لكنه قائم، مشروع أو حتى ملحّ، إذا شاء المرء أن يضع مصداقية هيرش على محك ملموس، قاطع الأدلة وبيّن الوقائع.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
“القدس العربي”