استراتيجيات “الشرعنة متعددة الأوجه” والتلاعب الخطابي: كيف استغلّ النظام السوري كارثة الزلزال؟

مقدمة[1]

بعد مضيّ أكثر من شهر على الزلزال المأساوي الذي ضرب تركيا وسورية، بقوة بلغت 7.8 درجات على مقياس ريختر، مخلّفًا أكثر من 51,900 ضحية في تركيا وسورية، ومُكبّدًا البلدَين خسائر اقتصادية تتجاوز قيمة 84 مليار دولار في تركيا وحدها[2]؛ تتجاوز تداعيات آثار الزلزال الصعيدَين الإنساني والاقتصادي لتشمل أيضًا، وخاصة في الحالة السورية، مستوى شرعية الدولة وأدوارها في الاستجابة للكوارث الطبيعية؛ فالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري تعاني أصلًا أزمةً اقتصاديةً حادةً، وتدهورًا متزايدًا في ظروف الحياة المعيشية، وذلك في جزء منه بسبب الحرب الأهلية المستمرة منذ أكثر من 12 عامًا، ولكن الجزء الأهم منه بسبب الفساد المستشري في مفاصل النظام نفسه، وتعنّته في رفض أي حلّ سياسي ضمن القرار 2254، واستمراره في وضع مقدرات الدولة لتمويل الأعمال العسكرية المستمرة، بهدف بقاء النظام بأيّ ثمن كان. لقد أعاد الزلزال للواجهة أسئلة تتعلق باستراتيجيات نظام بشار الأسد للاستثمار في الكارثة، من خلال تسخير المساعدات الإنسانية بهدف إعادة تأهيله، إقليميًّا ودوليًّا.

منذ بدء الانتفاضة الشعبية في عام 2011، كان هدف نظام الأسد الأساسي استرجاع السيطرة العسكرية على كامل أراضي سورية، إلا أن ذلك كان مصحوبًا أيضًا بابتداع النظام أساليب ممنهجة ومسيسة لعمليات التدجين والتلاعب الخطابي والاستثمار في الهويات الطائفية والاثنية، والدحض الكامل لأي سردية تجعل منه مسببًا للحرب. وقد لجأ النظام إلى أمننة Securitization معارضيه،[3] كما وظّف العقوبات الاقتصادية والحصار الدولي في خطابه الموجّه للداخل، وبنى سرديّة تقول إن هذه العقوبات هي السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية التي آلت إليها سورية. وفي حالات التسلطية المترسخة entrenched authoritarianism، لا بدّ من الإشارة إلى أن بقاء النظام الاستبدادي التسلطي لعقود يمنحه الخبرة والمرونة والقدرة على تكييف استراتيجياته في السيطرة؛ فإلى جانب استخدام العنف المادي المباشر، فهو يُحكم سيطرته على الموارد الطبيعية كافة، ويستخدم الريع الناتج عنها لتعزيز وترسيخ نخب دينية واقتصادية موالية له[4].

في السياق السوري، تُظهر كارثة الزلزال تعقيدات الديناميات الداخلية للنظام التسلطي في سورية وهشاشة الأجهزة الحكومية كفاعلين في أعمال الاستجابة. ومن خلال نظرة عامة لتقييم أداء الحكومات التسلطية، لا بدّ من الإشارة إلى أن مركزية وفردانية الحكم، كما في السياق السوري، والاعتماد على الآلة العسكرية، ترسّخ ديمومة الاستبداد، ولكنها تفضي أيضًا إلي ترسيخ هشاشة الدولة. وتعود أسباب فشل الدولة في إدارة الأزمات عمومًا إلى سيطرة الجيش ومظاهر الحكم العسكرية[5]، فضلًا عن الاستثمار في التصدعات الطائفية والاثنية والجماعاتية؛ لكن الحالة السورية تبيّن أيضًا تقزّم أداء حكومة النظام في فترة الكارثة، بعجزها عن الاستجابة للمتضررين، وبروز دور الأمانة العامة للتنمية، التي باتت أشبه بـ “دولة ضمن الدولة” a state within the state، لكنها تأخذ ظاهريًّا قالبًا غير حكومي. وعلى الرغم من مساعي النظام، خلال العقود الأخيرة، للتعامل بشكل أمني مع أي مبادرات مجتمعية أو مدنية (مرتبطة بالمجتمع المدني) باستثناء المبادرات المنبثقة منه أو التي يستفيد منها، يُظهر الزلزال الأخير أن النظام عاجزٌ عن تأطير المبادرات المجتمعية التي سارعت إلى الاستجابة للمتضررين.

على المستوى الدولي، كشف هذا الزلزال عن تقاعس المجتمع الدولي في حلّ الأزمة السورية، وبيَّنَ أكثر من أي وقت مضى اتجاه الأمم المتحدة نحو ترسيخ شرعية النظام بتفويضه إدارة المعابر، مستخدمةً في ذلك خطاب السيادة. وهكذا، يمكن اعتبار الزلزال بمنزلة اللحظة التحولية transformational moment لإعادة التفكير في مفهوم السيادة والشرعية والديناميات الداخلية للأنظمة التسلطية. وتحاجج هذه الورقة بأن كارثة الزلزال الأخير تُعيد تذكير الباحثين في حقل العلاقات الدولية والديناميات الداخلية للأنظمة التسلطية بأنّ الشرعية والسيادة مفهومان متغيران يتشكلان و/أو يعاد تشكيلهما حسب مصالح الفاعلين الإقليميين أو المحليين. وعليه، تنطلق هذه الورقة من مراجعة وتفكيك مفهومي الشرعنة متعددة الأوجه multifaceted legitimation والسيادة  sovereignty، بوصفهما مفهومَين تُستمَد معانيهما من مصادر خارجية external sources، مثل الفاعلين الإقليميين والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، أو داخلية مفروضة من فوقfrom above ، أي من قبل السلطة الحاكمة[6].

وانطلاقًا من التعامل مع كارثة الزلزال، بوصفها محددًا مؤثرًا ومتغيرًا، تقدّم هذه الورقة تحليلًا لكيفية استثمار نظام الأسد التسلطي للكارثة، من خلال استغلال المبادرات الإقليمية والدولية لتقديم المساعدات للمتضررين كنافذة للشرعنة وترسيخ سيادة مستمدة من الخارج. تبدأ الورقة بتحليل استراتيجيات التلاعب الخطابية التي يعتمدها نظام الأسد، مبينةً كيف يجري توظيف استجابة النظام للكارثة، في شكل من أشكال استراتيجيات الشرعنة المفروضة من فوق. وتقدّم الورقة، في هذا السياق، تحليلًا لخطاب النظام الموجّه إلى السوريين، فضلًا عن تحليل أثر هشاشة الدولة التي أدت إلى تنفُّذ مصادر أخرى للحكم، مثل الأمانة العامة للتنمية كبديل مُشَرعَن. ثم تنتقل الورقة إلى مناقشة تعقيدات وتناقضات مفهومَي السيادة والشرعية، التي أبرزتها كارثة الزلزال، من خلال طريقة تعامل الأمم المتحدة مع نظام الأسد، وكيف تحوَّلت إلى أداة للشرعنة الخارجية، ومن ثم إلى أداة لتعزيز سلطوية نظام الأسد. وتحاول الورقة فحص كيفية تأثير الكوارث الطبيعية في سلوك المتضررين وأحكامهم السياسية political judgements في سياقات أخرى، إضافة إلى مقاربة مدى فاعلية الحراك المجتمعي social mobility والمبادرات الأهلية التي أتاحها الزلزال في مناطق سيطرة النظام السوري، وتقييمها كأداة لمقاومة القيود السلطوية المتنفذة، واستنباط مدى قدرتها على خلق فضاء عام تضامني عابر للانقسامات والاستقطابات.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل

[1] شكر خاص لمساعدة الباحث بتول حديد، لمساعدتها في جمع الداتا.

[2] تصل إلى 84 مليار دولار.. تقديرات اقتصادية أولية تكشف حجم خسائر الزلزال في تركيا، موقع الجزيرة، نشر في 13 شباط 2023، متوفر على: http://bit.ly/41Lde85

[3] Aldoughli, Rahaf. Securitization as a Tool of Regime Survival: The Deployment of Religious Rhetoric in Bashar al-Asad’s Speeches, Middle East Journal 75 (1): 2021, pp. 9-32. See also: Barry Buzan, Ole Wæver, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for Analysis (Boul­der, CO: Lynne Rienner, 1998), 26; Barry Buzan and Ole Wæver, Regions and Powers: The Structure of International Security (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), 3–4

[4] وجيه حداد، أثرياء الحرب الجدد محل قدامى رجال الأعمال في سورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 30 أيار 2022. متوفر على: https://bit.ly/3KZJ2Ql

[5] Bellin, Eva. “The Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Exceptionalism in Comparative Perspective,” Comparative Politics 36, no. 2 (January 2004): p. 139, https://doi.org/10.2307/4150140.

[6] Bexell, Magdalena. Global Governance, Legitimacy and Legitimation (Routledge, 2020), p. 5.   

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

مايو 2024
س د ن ث أرب خ ج
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
25262728293031

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist