عرفت مصر في بداية الخمسينيات قدوم حركة الضباط الأحرار الذين سيطروا على البلاد بعد الإطاحة بالحكم الملكي. ولم تمر سوى سنوات قليلة، حتى كان جمال عبد الناصر رئيسا لمصر، وهو الذي غدا لاحقا بطلا قوميا في عيون ملايين العرب، ساعيا نحو تأسيس تجربة جديدة من العنف والقمع على صعيد الحياة العامة.
من هنا تبدو أهمية تتبع هذه اللحظة، ونعني بذلك لحظة قدوم العسكر للسلطة في مصر، وما عرفته السجون السياسية من إجراءات وأساليب تعذيب مغايرة. وتعد مذكرات المصري ألبير اريه في هذا السياق، من أهم النصوص التي نشرت مؤخراً ورصدت ولادة بذور القمع الوحشي، الذي عرفته السجون العربية في فترة ما بعد الاستقلال.
آريه هو مصري يهودي عاش حياته في القاهرة وبقي فيها طوال العقود الماضية حتى وفاته عام 2021 . ولد في الثلاثينيات من القرن العشرين، وانخرط في نهاية الأربعينيات في الحراك السياسي الشيوعي. وبحكم هذه التجربة، استطاع آريه حفظ ذاكرة عن التحولات التي عاشتها مصر، بالانتقال من الملكية الى الجمهورية، وكيف أثر ذلك على طبيعة الحياة السياسية، وأيضا على صعيد ظهور عالم الخوف المتمثل بالسجون الجديدة.
لا ينفي آريه أن فترة الملكية قد عرفت اعتقالات سياسية وقمعا للمعارضين، لكنه يؤكد في المقابل أن أيام الملك فاروق كانت تتم محاكمة الشيوعيين أمام محكمة عسكرية مدنية، أما بعد الثورة فقد تم إنشاء ما عرف ب «محكمة الثورة»، كما ترافقت هذه اللحظة مع انتشار كثيف للمخبرين في كل مكان. في سنة 1953، شن الأمن المصري حملة اعتقالات شملت المئات، وكان من بين هؤلاء الشاب ألبير آريه. وسيحاكم على عجالة، ليقضي 11 عاما في السجن، انتقل خلالها في سجون عديدة. وهذه الانتقالات ستسمح له بتدوين تفاصيل عن حال السجون السياسية أو الجنائية آنذاك، وكيف أخذت تتغير خلال الخمسينيات وحتى بداية الستينيات.
سجن ليمان طرة
نقل آريه إلى سجن ليمان طرة، وكان آنذاك عبارة عن مبنى تحيطه أسوار عالية جدا. أكثر ما لفت نظره عند وصوله، أن السجانين لم يطلقوا عليهم اسم سجناء سياسيين وإنما وصفوهم بالمذنبين، وعند دخولهم اعطوهم فراشا من ليف النخيل للنوم عليه، وبطانيتين مستهلكتين، ينامون على واحدة ويتغطون بالأخرى. يذكر أيضا أن الطعام في هذا السجن كان رديئا مقارنة بالسجن السابق، ويعزو ذلك إلى تلاعب السجانين بالكميات ومحتوياته وسرقتها. كان الفطور يتكون من جبنة قاسية، ومن عسل أسود (الدبس) فاسد، والغداء يتكون من وجبة من الفول به سوس أو عدس مخلوط بالأرز، ولذلك اضطروا لدفع النقود لكي يحسنوا من الطعام. أغلب الضباط في السجن كانوا قد عينوا من أيام الملك فاروق، ولأن النظام كان جديدا، فقد تعاملوا مع السجناء بشكل جيد، ولم تكن طبيعتهم معادية. مع ذلك لاحظ السجين آريه أن هناك تحولا جرى مع ظهور سجانين من طبقة أخرى، التحقوا بعملهم في الأيام الأخيرة للملكية، وأغلبهم فلاحون فقراء، وقد تاجر أغلبهم في مؤن السجون وأخذوا الرشاوى.
ومن بين القصص التي يرويها هنا، محاولتهم سرقة الخضروات عن طريق المساجين في المطبخ، وقاموا بتهريب فرن صغير (بابور) وتولوا الطهو.

ألبير آريه
يذكر آريه أن الأمور استمرت عادية في السجن حتى حدوث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية يوم 26 أكتوبر 1954، وهنا بدأ الإخوان المسلمون يتعرضون للتعذيب، وتم ابتكار أساليب جديدة للتعذيب أكثر وحشية، ومن بينها انهم في أحد الأيام أحضروا زوجة أحد المتهمين بالمشاركة في عملية الاغتيال، وكانت مريضة، وقاموا بتعريتها أمامه والتهديد باغتصابها.
خيم في الصحراء
في فترة 1956، جاء قرار بنقل السجناء السياسيين إلى سجن الواحات، وهو سجن كان قد شيد حديثا في زمن عبد الناصر. والغريب أن السجن في نسخته الأولى كان أقرب للمعسكر منه للسجن. فعند وصول اريه للسجن، بدا له عبارة عن ساحة كبيرة تحوطها أسلاك شائكة وأعمدة كهرباء، والزنازين عبارة عن خيام، وبعض العنابر المبنية من الصاج القديم. قدم لكل سجين لوحا خشبيا وأربع قطع من الطوب. ولعل ما لفت نظرهم انتشار جرابيع الصحراء (وهي تشبه الفئران، لونها أصفر وذيلها طويل جدا). كان السجناء معزولين تماما عن العالم فلا صحف ولا أخبار، وكان ذلك من ضمن خطة النظام وهدفه من وجودهم في الواحات: عزلهم عن المجتمع.
أخذ السجناء يحصلون على الأخبار من المساجين الذين يذهبون للمحكمة، ويعودون بالمعلومات، أو ممن ينقلون للمشافي. حاولوا مقاومة واقعهم من خلال إنشاء مدرسة، ومن القصص الملفتة والغريبة هنا، والتي ربما لم تجر في أي سجن عربي آخر، أنه بعد تأسيسهم للمدرسة، انضم بعض السجانين، وكانوا في غالبيتهم لا يجيدون القراءة، إلى المدرسة. وهكذا تحولوا من أشخاص قساة الى تلاميذ في المدرسة، يجلسون على الكراسي ومعهم الكراريس والاقلام.
راديو في السجن!!
ارتبط واقع التعذيب في السجن أحيانا بالتطورات السياسية التي كانت تعيشها مصر. فبعد الهجوم الثلاثي على قناة السويس 1956، تقارب الرئيس المصري عبد الناصر مع المعسكر الاشتراكي، وهو ما انعكس على حياة السجناء، وحدثت في السجن انفراجة بعض الشيء. كانت سنة الدلال بالنسبة للسجناء الشيوعيين، حيث نقل بعضهم الى سجن مصر والذي أداره ضابط يدعى محمود صاحب. وهو رجل درس منهج إصلاح السجون في أميركا، ولذلك حاول تطبيق ما تعمله في هذا السجن. وفي هذه الفترة سيتعرف السجناء على راديوهات جديدة، وسمح لهم بتشكيل فرق كرة قدم ومرافقة الفرق كمشجعين إلى سجون أخرى، مما سمح للسجين اريه بمتابعة ما كان يحدث في سجون أخرى.
لكن هذا الربيع لن يستمر طويلا، إذ سرعان ما بدأت حملة تعذيب أخرى في عام 1959، وقد ترافق ذلك مع إنشاء معتقل الأوردى، والذي مورست بداخله أساليب في التعذيب، لم تعرفها مصر في السابق.
كما عرف هذا السجن وفاة عدد من المعتقلين أولهم فريد حداد، الذي كان يضربه أحد الضباط على جمجته ويسأله «انت روسي يا واد (طفل)» في إشارة لعلاقته بالشيوعية. هذا وقد أغلق السجن بعد الانفصال بين سورية ومصر عام 1961. لكن هذا الإغلاق لن يتمكن من مسح ذاكرة ألبير وزملائه، الذين سيدونون تفاصيل عديدة عن هذا السجن وسجون عبد الناصر في فترة الخمسينيات وحتى بداية الستينيات، قبل أن تأتي تجربة عنف أكثر وحشية تمثلت بقدوم البعثيين للسلطة في سورية والعراق.
كاتب سوري