إن كان «المجال الثقافي» هو آخر ما تبقى من مشاغل اليسار الثقافي، فإن غياب الثقافة جعلت منه « أيديولوجية فقيرة» ( ياسين الحاج صالح/ أي يسار، أين، أي سياسات يسارية؟ / مجلة الآداب/ 2010)؛ هي جزء من أزمة مركبة في منظومة المثقف اليساري، من أهم مظاهرها موت «المثقف العضوي» بولادة مثقف العولمة الكوكبي أو المثقف الكوني.
لكن الشاغل المركزي لنا: كيف فشل اليسار الثقافي في مشروعه السياسي والأيديولوجي؟ والأهم من ذلك: لماذا لم يعد اليسار الثقافي منتجاً للتفكير الثقافي؟
وإن كانت أزمة المثقف اليساري ـ أزمة الفكر اليساري برمته، فإن المثقف اليساري لم يتحّرر من قيد «النص الماركسي» لكي ينتج التفكير الثقافي بحيوات ثقافية جديدة. ولعل أخطر ما في أزمة ثقافة اليسار؛ أن يظهر مثقف ما بعد مرحلة التحرّر الوطني في عالم مضطرب ـ كمثقف غير سياسي، وسياسي غير مثقف، وهما عاجزان عن إنتاج أي أفكار جديدة، الأمر الذي جعل كل منهما أسير عدمية ثقافية وسياسية. وإن كان غرامشي قد عالج مشكلة كيفية إنتاج «المثقف العضوي « من خلال الطبقة العاملة نفسها، فإن مقولة «المثقف العضوي» لم تعد نافعة أو فاعلة في سياق تحوّلات الحداثة وما بعد الحداثة، خاصة بعد تفكك البروليتاريا وسقوط النموذج الاشتراكي، حتى أصبح (المفكر التقليدي) نفسه هو (المثقف العضوي) للطبقة الحاكمة، وبذا توقف إنتاج هذا النوع من عضوية المثقف اليساري، ثم تغيّر مفهوم اليسار الثقافي بالتزامن مع الحرب الباردة باسم «اليسار الجديد» الذي يرتبط بالحياة اليومية. وإن كانت الحدود بين اليسار والديمقراطية والليبرالية إنمحت، حتى حلّت فكرة (المجتمع المدني) محل فكرة (الصراع الطبقي) فهل يعني ذلك: أننا إزاء يسار (توفيقي ـ تلفيقي) وإن كان كذلك، فإن اليسار الثقافي لم يعد يمتلك من عناصر القوة والتحدي والديمومة التي كان عليها في مرحلة «التحرّر الوطني» بما يجعله متجدّدا مع قوانين تطور حركة الواقع، لأنه محكوم بما يسميه عبد الحسين شعبان بـ»نستولوجيا» الحنين إلى الماضي. وإزاء نستولوجيا المثقف اليساري، يتساءل شعبان:
«أهي نهاية للمثقف العضوي حسب غرامشي؟ وهل بإمكان «تفاؤل الإرادة « تغيير» تشاؤم الواقع» أم ثمة عوامل ينبغي استكمالها لتحقيق ذلك؟ وهل صعود مثقف العولمة والمثقف النيوليبرالي هي نهاية للمثقف اليساري؟» (عبد الحسين شعبان/ نستولوجيا المثقف اليساري/ الحوار المتمدن/ 1 /5/2017).
إذن، هل ثمة مثقف أو مفكر أكثر ماركسية من ماركس لتمثيل الماركسية؟ حتى جاك دريدا، يعلن عن نفسه طفلا غير شرعي لماركس (الماركسية الغربية وما بعدها/ مجموعة مؤلفين / تحرير علي عبود المحمداوي/ ينظر: تقديم: كيف يمكن ان نفكر بعد ماركس/ أم الزين بنشيخة المسكيني) لهذا لا أحد يقول «أنا ماركس إلاّ على نحو تخييلي» (الماركسية الغربية وما بعدها/ مرجع سابق). ولكل ذلك، فإن اليسار الثقافي، هو في أحسن أحواله (صانع توافقات) بقدر ما هو (صانع تحالفات) بين أحزاب وأيديولوجيات سياسية ودينية. ونكرِّر ثانية: إن كان ما تبقى من مشاغل اليسار العربي هو «الشاغل الثقافي» فما الذي تبقى من المثقف اليساري؟ وإلاّ فما تعليل اضمحلال الفكر اليساري؟ بدلالة أنه لم يعد منتجا ًللأفكار، أي لماذا وكيف فشل اليسار الثقافي في مشروع التغيير السياسي والتجديد الفكري؟
لكن قبل تفكيك بنية الإخفاق، التي أفضت إلى مأزومية اليسار الثقافي، كان روجيه غارودي أول مفكر يساري من خارج المنظومة الاشتراكية؛ رفض «ديكتاتورية البروليتاريا « وقيادتها الرثة للسلطة والتحوّلات الاجتماعية، وقد قدّم فكرة «الكتلة التاريخية الجديدة» كبنية موضوعية بديلة لها، وتجمع هذه الكتلة بين الثقافة والاقتصاد والسياسة في سياق حداثي جديد.
لم يفهم المثقف اليساري ماركسية ماركس، حتى ماركس يقول عن نفسه «كل ما أعرفه، هو أنني لست ماركسيا» وإلا كيف كان بإمكان المثقف اليساري أن يفهم نفسه، لكي يفهم تناقضات الواقع العربي؟
من هنا بدأت إرهاصات التحوّل من الماركسية الاقتصادية إلى الماركسية الثقافية، خاصة بعد أن وضع اليسار الجديد ـ التصور الماركسي للتاريخ والسلطة في مساءلة جديدة.
وفي طور المجتمعات التي أخذت فيه الرأسمالية تقوم بإنتاج العقلنة، وتحويل التكنولوجيا إلى أيديولوجيا، لم تعد الرأسمالية هي الرأسمالية نفسها التي تحدث عنها ماركس، حتى أصبح الصراع، على حد تعبير جاك دريدا في كتابه «أطياف ماركس» يتشكل بعوامل جديدة (محركة ودافعة) نحو «التقنية العلمية».
ومن (لبْرلَة التكنولوجيا) تحديدا، بدأ إخراج الإرث الماركسي للاقتصاد السياسي من نظرية الصراع الطبقي إلى نظرية الليبرالية، وما تنطوي عليه من ديمقراطية قائمة على تحالف العولمة والسوق الحرّة. أما بورديو، فقد فكّك مقولة الصراع الطبقي، فالصراع الطبقي، وإن كان ينطلق أساسا من الرأسمال الاقتصادي، فإن ثمة رأسمال آخر يكشف عن صراع أكثر حدة وعمقا، حتى يتمايز داخل الطبقة الواحدة، هذا الرأسمال يسميه بورديو «الرأسمال الرمزي» وهو ذاته «الرأسمال الثقافي، هذا الرأسمال الذي يكشف عن آبيتوس، أي طبقة، يجعل الصراع الاجتماعي الطبقي قائما ليس على أساس التنافس على فائض القيمة، بل على استملاك الثروات المادية والرمزية (أكرم حجازي/ البنيوية التركيبية ـ فلسفة بورديو/ إنترنت).
ورغم هذه الانتقالات النوعية في كيفية إنتاج تفكير يساري أكثر استيعاباً لتحولات العالم، وصولاً إلى الطور الرابع للرأسمالية المتأخرة، فإن اليسار العربي الثقافي، كان ولا يزال مأسورا بأوهام الماركسية الاقتصادية، ومنها (الدين) بوصفه (وهماً) و(أفيوناً) نتيجة التقدير الخاطئ لماركس، وهو امتداد لخطأ لودفيغ فورباخ، في حين كان «طاقة هائلة» بعبارة لينين رجل الدولة.
ولكل ذلك، لم يفهم المثقف اليساري ماركسية ماركس، حتى ماركس يقول عن نفسه «كل ما أعرفه، هو أنني لست ماركسيا» وإلا كيف كان بإمكان المثقف اليساري أن يفهم نفسه، لكي يفهم تناقضات الواقع العربي؟
لقد فقد المثقف اليساري القدرة والإمكانية على تقديم رؤية جديدة للعالم، ليس لأن الماركسية تجمّدت عند حدود معينة من تطور قوانين حركة التاريخ، أو لأنها فشلت في تغيير العالم، وليس لأن «الشيوعية اليسارية ـ مرض طفولي» بعبارة لينين، وإنما لأن مشكلة المثقف اليساري تكمن في كيفية إنتاج متخيّل ثقافي جديد يتجاوز «قداسة الماركسية» ويتخطى الانبهار بنموذج الشيوعية بوعي جديد أيضا، أي: كيف يكون المثقف ماركسيا عابراً للماركسية، أو شيوعيا عابراً للشيوعية؟
ورغم جدل شخصية غورباتشوف السكرتير السابع والأخير في نهاية الشيوعية، فقد كان منتجا ً لأفكار يسارية جديدة بأخلاقيات ثقافية جديدة أيضا، فقد جمعت «البريسترويكا» التي تعني «إعادة البناء» بين تحليل الواقع ونقده وتحريره من الضوابط الصارمة لديكتاتورية البروليتاريا، حيث أقرّت بالديمقراطية أولا، ونبذت العنف الثوري المسلح، وجعلت من «هدف الصراع الطبقي هو السلام والانسجام» و»برّزت الدور التقدمي للدين» وقبل ذلك اعترفت بـ»أن فكر ماركس يحتاج للمراجعة» (ميشيل هيلير/ السكرتير السابع والأخير/ نشوء وانهيار الامبروطورية الشيوعية/ ترجمة نظير جاهل وحسن الضيقة/ شركة المطبوعات للنشر والتوزيع/ بيروت – لبنان 1996). وإن كانت «البريسترويكا» تمثل ثورة من الداخل لـ «إعادة البناء» فلماذا إنهارت الشيوعية؟ هل فقدت الشيوعية القدرة والإمكانية على استيعاب (منتج الأفكار) الجديدة؟ تلك هي طاقة الخطأ في تاريخ بناء الشيوعية.
لقد انهار اليسار الثقافي، بعد أن توقف عن إنتاج أي تفكير ثقافي جديد بحيوات جديدة، وذلك قبل انهيار الشيوعية في العالم.
كاتب من العراق
“القدس العربي”