لا مناص هنا من أن نبدأ من قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر «الحديث عن اللغة أسوأ كثيرا من الكتابة عن الصمت». وهذا ليس غريبا عن إدراكنا أن الحديث عن أكثر الأشياء بساطة ينطوي أحيانا على صعوبات لا نهاية لها. واللغة يقينا هي أول هذه الأشياء الواضحة والمتداولة يوميا في كل مكان، وعبر وسائل متنوعة وأكثرها بداهة أيضا. قد يبدو الكلام هنا جافا صعبا وهذا ما يجب التواضع عليه لأن لا طريقة متاحة للتحايل على تعقيده وصعوبته. على أي حال ومن أجل حصر الموضوع في ما قلناه في مقال سابق نشر على هذه الصفحة عن اللغة والترجمة؛ علينا أن نحاول تأطير تعريف للغة بالقدر الذي يجعلها مفهومة في سياق علاقتها بفهم عملية الترجمة. يمكن اختزال الأسئلة الأساسيّة التي تتصدّى لها فلسفة اللغة عبر التاريخ كالآتي: ما هيَّ اللغة وما هي الكلمات ليكون لها معنى؟ بل ما هو المعنى؟
هذه الأسئلة الأساسيّة التي شغلت الفلاسفة على مدى عصور تمتد من الفلاسفة الإغريق الذين سبقوا سقراط مرورا بالأفلاطونيين المحدثين وحتى عصرنا هذا. وحين نبدأ من الفلاسفة الأولين نرى أنهم ركّزوا في سعيهم الحثيث على صياغة مقاربة مقبولة لفهم العلاقة بين اللغة والعالم على السؤال الآتي: هل العلاقة بين الاسم وما يدل عليه متأصلة في الطبيعة أم أنها عرفيّة؟ تم التحوّل بعد ذلك إلى فكرة أن الأسماء تمثل انطباعاتنا عن الأشياء في العلم، وليس الأشياء في ذاتها. ولا شك في أنَّ السؤال الفلسفي عن طبيعة اللغة يرتبط بأسّ الفلسفة لأن اللغة هي الوسيلة الوحيدة لتعبيرنا عن العالم ومعرفتنا به. رأى الخطيب اليوناني ايسقراط (338-436 ق.م) أن ليس ثمة فرق بيننا وبين الحيوانات في معظم قدراتنا، بل قل نحن في واقع الأمر لا نجاري كثيرا منها في السرعة والقوة، وفي مزايا كثيرة أخرى. لكن القدرة على الإقناع والتعبير عمّا نشاء ولدت فينا على وجه الخصوص وبها لم نستطع النجاة من العيش كالوحوش فقط، بل استطعنا أن نجتمع ونبني المدن ونصوغ القوانين ونبتكر الفنون. الكلام هو ما جعلنا قادرين على تحقيق هذا، لأن الكلام هو الذي صنع النواميس وميّز بين العدالة والظلم وبين الشرف والعار والتي ما كان لنا أن نعيش معا دون وجود أحكامها.
نظرة ايسقراط العميقة هذه قامت على أساس أن القدرة على الإقناع والتعبير عمّا نشاء ولدت فينا، ولكن الأمر لمن تلاه من الفلاسفة في عصر ازدهارها كان مختلفا. ناقش أفلاطون في محاورة «كراتيلوس» ـ أو صحة الأسماء كما يفيد عنوانها الفرعي – وجهتي نظر مختلفتين؛ الأولى يتبناها كراتيلوس ومفادها أن لكل شيء اسما مناسبا خاصا به منحته إياه الطبيعة يكشف عن جوهره، والثانية يتبناها هيرموجينس ومفادها أنَّ الأسماء نتاج تواضع وعرف، بين مجموعة لغوية ما، على منح الشيء اسمه. يدخل سقراط كالعادة في محاورات أفلاطون ويشترك في الحوار ليجد حلا وسطا موائما بين الرؤيتين باعتبار أن كليهما صحيح في جزء منه.
أفضى أرسطو في ما بعد بجواب أكثر وضوحا بصدد تلك الثنائية؛ الطبيعة مقابل العرف – معتبراً أنَّ الأصوات المنطوقة رموز تعبّر عن «انفعالاتنا الروحية» إزاء الأشياء في العالم الموضوعي، وأنَّ العلامات المكتوبة رموز للأصوات المنطوقة وهي ليست متشابهة لدى البشر كلهم بينما أساسها «الانفعال الروحي» هو واحد متشابه لدى كلّ البشر. ويعتقد كثيرون من سابقين ومحدثين أن أرسطو أرسى بذلك الخط العام لرؤية عميقة للغة بالإشارة إلى المثلث السيموطيقي (الشيء – المفهوم ـ الاسم) إذا استبدلنا الانفعال الروحي بالمفهوم أو الفكرة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا التشابه هو في الحقيقة تشابه سطحي فالنظرة الأنطولوجية العميقة التي تتأسس عليها مقولة أرسطو تختلف كليا عن النظرة التي أبداها لوك في ما بعد، أو ما قاله الفلاسفة المتأخرون وصولا إلى رواد علم اللغة في بدايات القرن العشرين في ما يتعلق بدراسة اللغة والعالم ومنهجهم في تحليل آليات اللغة ووظيفتها.
الرؤية التي تقدّم بها الفيلسوف جون لوك (1704-1636) في القرن السابع عشر في محاولته للإجابة على تلك الأسئلة تفيد بأن اللغة نظام من العلامات التي نستخدمها للتفاهم في ما بيننا، فالعلامات التي تكوّن اللغة تأخذ معناها من ربطنا لها بالأفكار التي نريد التعبير عنها، ومعنى الكلمات في أي لغة هو في الواقع الذي صوّره لوك اتفاق بين المتحدثين على ارتباط معين بينها وبين أفكار بعينها متعارف عليها. لكن التحول الحاسم الذي عدّل رؤية لوك هذه أحدثه كلٌّ من جون ستيوارت مل (1873-1806) وغوتلوب فريجيه (1929-1848) حين ذهبا إلى أنَّ الكلمات تعنى بالأشياء في العالم وليس بالأفكار أو بنات العقل. هكذا أصبح سؤال اللغة هو سؤال عن علاقة اللغة بالعالم.
قدّم عالما اللسانيات والأنثروبولوجيا إدوارد سابير (1939-1884) وتلميذه بنجامين وورف (1941-1898) إلى حقل دراسة اللغة والفكر مع بداية القرن العشرين فرضيتهما المعروفة بفرضية سابير- وورف (Sapir-Whorf- Hypothesis-) أو بالنسبية اللسانيّة (Linguistics Relativity)) أو اللسانيات النسبية كما يترجمها بعض الأساتذة أو التوفيقية اللغوية كما ينحو بعض آخر، والقائلة بأنَّ اللغة التي يتحدث بها الفرد تحكم طريقة ادراكه واستيعابه العالم. يكتب سابير في (الثقافة واللغة والشخصية): «لا يعيش الإنسان في العالم الموضوعي وحده، ولا في الفعّالية الاجتماعية كما يُفهم الأمرُ عادةً، ولكنه يعيش تحت رحمة لغة بعينها باتت وسيلة التعبير في مجتمعه. إنَّ من الوهم المفرط تصوّر مقدرة الانسان على التكيّف مع الواقع دون استعمال اللغة، أو القول بأنَّ اللغة هي مجرد وسيلة عرضيّة لحل مشاكل معينة في التفاهم أو التفكّر. حقيقة الأمر هيّ أنَّ العالم الحقيق مبنيٌّ إلى حدٍ كبير وبطريقة لا إرادية على العادات اللغوية لمجموعة اجتماعية ما. لذا فالعالم الذي تعيش فيه مجتمعات مختلفة هو في الواقع عوالم عديدة مختلفة متمايزة، وليس عالما واحدا بعلامات مختلفة ندمغها على أشيائه. فنحن نرى ونسمع ونخبر الأشياء كما نفعل، لأن العادات اللغوية للمجتمع الذي نعيش فيه تقرّر لنا خيارات محدّدة للتأويل».
الاسم الثاني المقترن بهذه الفرضية بنجامين وورف يقول من ناحيته في رسالته (العلم واللسانيات) ما مفاده هو أنّنا نشرّح العالم ونقسّمه طبقا لمخططٍ تضعه لغتنا الأم. إنَّ الأصناف والأنواع التي نبوّبها ونفصلها عن عالم الظواهر لا توجد في العالم الموضوعي، على العكس تماما فالعالم يتجلّى أو يتكشّف في تيار كاليدوسكوبي من الانطباعات التي على عقلنا القيام بتنظيمها وتسمية خصائصها، كما نقوم بالفعل لأنّنا طرفٌ في عقد واتفاق على تنظيمه وتصنيفه بهذه الطريقة. وهذا العقد قائم في مجتمعنا اللغوي ومشفَّر في أنساقنا اللغوية.
النظام اللغوي حسب وورف ليس مجرد آليّة لإعادة إنتاج الأفكار والإفصاح عنها، وإنّما هو الذي يقولب رؤيتنا للعالم. القواعد التي تحكم اللغات المختلفة تساهم على مستويات مختلفة في عملية استيعابنا العالم وتكوين أفكارنا عنه. تتضح أبعاد مشكلة الترجمة وملابساتها في ضوء هذا الفهم الديناميكي للغة، حيث تصبح عملية الترجمة مزاوجة بين رؤيتين للعالم، أو ربما مزاوجة عالمين. من ناحيته، يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في كتابه (الشعر واللغة والفكر): «الإنسان يتكلّم. نحن نتكلّم في اليقظة ونتكلّم في الأحلام. نحن نتكلّم على الدوام وحتى حين لا ننبس ببنت شفة، وإنّما ننصت أو نقرأ أو حتى حين لا ننصت ولا نقرأ بل نقوم بعملٍ ما أو نستريح لا أكثر. نحن نتكلّم بلا انقطاع بهذه الطريقة أو تلك. نحن نتكلّم لأن هذا من طبيعتنا البشريّة إذ لا ينبثق الكلام من خروج على – أو انتهاكٍ لشيءٍ ما. فالإنسان يولد واللغة في طبيعته، ومن الثابت أن الإنسان وعلى خلاف النبات والحيوان هو الكائن الحي الوحيد القادر على الكلام». لا يعني هذا قطعاً أن الكلام فعل طبيعي مثل أفعال البشر الطبيعية الأخرى، فالإنسان يكتسب القدرة على صياغة وإنتاج الكلام من المجتمع الذي يعيش فيه كما يورد هايدغر في الكتاب نفسه. لننظر في ما كان يقوله علم اللسانيات والأنثروبولوجيا إدوارد سابير في هذا الصدد: (اللغة ظاهرة يومية مألوفة لذا نادرا ما يتوقف مستخدمو اللغة العاديون (غير أولئك الذين يتخذونها مجالا للعمل والبحث) عند محاولة تعريفها، إذ تبدو اللغة طبيعيّةً للإنسان، مثل المشي أو ربما بقدر أقل مثل التنفس. لكنّنا لن نحتاج أكثر من لحظة من التأمل لنعرف أن «طبيعيّتها» المزعومة هذه محض وهم، وإن عملية اكتساب اللغة في واقع الأمر تختلف كليّاً عن تعلّم المشي، لأنَّ ليس للثقافة (الاستعمال الاجتماعي المتوارث السائد) دورٌ تلعبه في عملية المشي، ولأن كلَّ مولود مجهّز أصلاً في الوضع الطبيعي بتشكيلة معقّدة من العوامل التي نصطلح عليها بالوراثة البيولوجية لتقوم بكل التوازنات العضليّة والعصبيّة التي ينتج عنها المشي.
إن الكلام فعل بشري يختلف في أنظمته من مجموعة بشرية إلى أخرى لأنه يحتوي على إرثٍ تاريخيٍ محض خاص بكلّ مجموعة. فهم أي كلمة في أي لغة يرتبط بفهم تاريخها وإرثها في تلك اللغة، لأنها نتاج استعمال اجتماعي طويل ومتواصل. هذا يعني في واقع الأمر أن ترجمة نص ما، سواء كان قولا أو كتابة، وحسب الفهم المعاصر لعمل اللغة وفعل الترجمة، يعني تفكيكه وإعادة إنتاجه. لم تبرز أهمية استقلال الترجمة كحقل للدراسات الأكاديمية إلا مع ظهور منظّرين وأكاديميين بارزين في النصف الثاني من القرن العشرين. ولن نجافي الصواب إذا قلنا إنَّ ذلك الاستقلال كان من نتاج تداعيات الانقلابات الفكرية والمنهجية في فهم اللغة ودراسة عملها وآلياتها مع بدايات القرن العشرين.
أصبحت الترجمة قبيل نهايات الألفية الثانية حقلا أكاديميا بارزا وخصبا في الجامعات العالمية، وبرز منظرون وأكاديميون كما أسلفنا أسسوا لدراسة الترجمة القواعد النظرية والمناهج البحثية والتدريبية. وما زالت الدراسات تستكشف أعماق هذه العملية الحية لتزاوج عامين بكل ما ينطوي عليه هذا التزاوج من تعقيد في ظروف حدوثه وغايته، وما يفرزه من تحديات ومشاكل.
“القدس العربي”