«مؤسسة منتدى أصيلة» المغربية، في موسمها الثقافي الدولي الثالث والأربعين، اختارت إثارة قضية الشعر العربي وشعريات عالم الجنوب، في أفريقيا وأمريكا اللاتينية خصوصاً؛ وهذا ملفّ هامّ، بالغ الحيوية، متشعب وحمّال أوجه، فضلاً عن كونه راهناً ومفتوحاَ على أربع رياح الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً، وليس جنوباً فقط. مساهمة هذه السطور في الموسم تناولت إشكاليات هذه القضية من زاوية محددة، هي طبائع الاتصال أو الانفصال، بمعنى التطابق أو التباين، بين مشاريع الحداثات الشعرية التي اقترحتها بلدن آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مقابل (أو في الوسع القول: إزاء) الحداثة الشعرية الأوروبية كما سجّلتها العقود الأولى المبكرة من القرن العشرين.
والورقة أدرجت الغالبيةَ العظمى من نماذج الحداثات الأولى ضمن التوصيف ما بعد الكولونيالي؛ الذي بات (رغم مظانّه التي تكاثرت في السنوات الأخيرة) شائعاً وبالغ النفع في جوانب تحليلية ومنهجية وتصنيفية عديدة، من جهة أولى؛ كما أنّ تنظيراته وتطبيقاته النقدية تقاطعت، من جهة ثانية، مع نُظم دراسية راسخة مثل الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والاقتصاد السياسي. وليس هنا المقام المناسب لاستعراض خطوط الورقة وخلاصاتها، ولكن قد يكون من المفيد سرد نموذجين على حكايات تؤكد الصلات الوثيقة بين تطوير الأشكال والموضوعات في الفنون عموماً من جهة، والاستقطابات القديمة التي ظلّ المركز الكولونيالي أو الإمبريالي ينتجها ويعيد إنتاجها من جهة ثانية.
الشعر ما بعد الكولونيالي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية انطوى على مشاريع تناظرت وتتناظر وفقاً لاعتبارات جمالية تَحتّمَ أن تهيمن عليها ضغوطات التاريخ والاجتماع والسياسة وحتى الاقتصاد، وأن تتنوّع حال التناظر بين بلد وآخر وقارّة وأخرى
حكاية أولى تبدأ مما أسماه الشاعر المارتينيكي إدوارد غليسانت «اقتحام الحداثة» في قلب مَزارع الكاريبي، مع تطعيم اللغة الإنكليزية بخلائط الأشانتي والكونغولية واليوروبا ولغات المستعمرات الأخرى، مترافقة مع تسلل الإيقاعات الأفريقية إلى موسيقى الجاز والبلوز في أمريكا، وتجلياتها ليس في حركة «إحياء هارلم» وشعر لانغستون هيوز وسترلنغ براون فحسب؛ بل كذلك في بعض تراكيب وصياغات قصيدة ت. س. إليوت الأشهر «الأرض اليباب». وهكذا بدت سنة 1922، التي شهدت ولادة هذه القصيدة الفارقة، مختبراً شاهداً على التفاعلات بين مزارع الاستعمار والشتات الأفريقي.
هذه الحكاية تجد تتمة أولى في انخراط إزرا باوند، أحد كبار شعراء ومنظري الحداثة الغربية في متروبول لندن، بقراءة الشعر الصيني وترجمته؛ وهو خيار عميق سوف يتجاوز الولع الشخصي إلى إطلاق «المدرسة التصويرية»، وإحكام قبضة صارمة على حركة التحديث بلغت درجة اقتطاع 400 سطر من «الأرض اليباب» واقتراح رميها في سلّة المهملات. كما تجد الحكاية سابقة لها، في علاقة متميزة أقامها الشاعر الإرلندي و. ب. ييتس مع الشاعر الهندي البنغالي رابندرانات طاغور، واللقاءات التي شهدتها لندن بين الشاعرين وما دار فيها من حوارات معمقة حول الشعر والهوية الوطنية، وذلك في سنة 1912 وقبل عام من فوز طاغور بجائزة نوبل للأدب.
حكاية ثانية بطلها أستاذ جامعي نيجيري حصل في سنة 1973 على منحة للتدريس في جامعة كامبرج، قسم اللغة الإنكليزية، ظاناً أنها فرصته لإلقاء سلسلة دروس حول آداب بلاده والقارّة عموماً؛ لكنه صُعق حين علم من عمادة القسم أنّ الجامعة لا تعترف بمادة تتناول هذه المواضيع، ولا تسمح بتدريس «أيّ وحش أسطوري يحمل اسم الأدب الأفريقي» حسب تعبيره؛ وكان أن أُحيل الأستاذ للتدريس في… قسم الأنثروبولوجيا! ذلك الرجل لم يكن سوى الروائي والمسرحي والشاعر وولي سوينكا، الذي سوف يفوز بجائزة نوبل للأدب سنة 1986، وستكون له آراء فارقة بصدد واحدة من المسائل الجمالية الكبرى التي اكتنفت دراسات «الكتابة السوداء»، أي مفهوم «الزَنْوَجة» كما صاغه الشاعر المارتينيكي إيميه سيزير؛ إذْ ساجل ضدّ المصطلح، دون أن يقلل البتة من قيمة الكتابات التي اندرجت في إطاره. لقد اعتبر أنّ افتراض صفة الزنوجة في كلّ نصّ «أسود» أو «أفريقي» المنشأ، ينطوي على نزعة قَدَرية في إقامة مواجهة بين جمالية سوداء وأخرى بيضاء؛ وبالتالي ينطلق، ضمناً أو علانية، من جوهرانية عرقية لا تحتسب فوارق الجغرافيات والثقافات.
هذه حكايات تروي عن الشكل الحداثي أيضاً، وليس المضامين وحدها، إذْ أنّ القصيدة ما بعد الكولونيالية تتيح للشاعر أن يمزج بين أشكال مختلفة، ويتوجّه نحو مستقبِلين مختلفي المشارب والمطالب، أو ذائقات متباينة تارة أو متقاربة تارة أخرى. من هنا أهمية المشاريع الشعرية ذات الطابع الكوزموبوليتي، المنكبّة على تظهير القصيدة الوطنية أو الغنائية أو الملحمية، وبالتالي تطويع الأشكال وفقاً للغايات وشرائح التلقّي. وهذا لا يلغي، بل لعله يحرّض على، الاختلاف في استخدام وسيط شعري جبار مثل اللغة الإنكليزية؛ بين شاعر مثل الكاريبي ديريك ولكوت، يعدّه الكثيرون شكسبير القصيدة المعاصرة أو هوميروس الملحمة في النصف الثاني من القرن العشرين؛ وبين مواطنه كاموا براثويت، الذي يرفض هذا التوجه ويصرّ على تثوير اللغات الوطنية بدل إثراء اللغات الكولونيالية.
بذلك فإنّ الشعر ما بعد الكولونيالي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية انطوى على مشاريع تناظرت وتتناظر وفقاً لاعتبارات جمالية تَحتّمَ أن تهيمن عليها ضغوطات التاريخ والاجتماع والسياسة وحتى الاقتصاد، وأن تتنوّع حال التناظر بين بلد وآخر وقارّة وأخرى، وأن تتلاقى في الآن ذاته حول سلسلة من القواسم المشتركة ذات الصلة بالمضمون والشكل والثقافة والاستقبال والتراثات. وتلك سيرورة تعيد، مجدداً، التشديد على العرى الوثقى بين النصّ الشعري وقارئه، وبين القصيدة والتاريخ.
“القدس العربي”