كلّما ازداد واقع السوريين مأساويةً وتشعّباً، كانت حاجتهم إلى الخروج من حالة النزق وردّات الفعل أكثر، وكذلك كان انعطافهم نحو التفكير المعمّق والرصين أجدى من الانسياق وراء الندب وتوزيع اللعنات حيناً وجلد الذات حيناً آخر، إذ ربما تسهم شدّة الصراخ وجَلَبةُ التحشيد في بلورة الوجع وتصديره للرأي العام، ولكنها لن تسهم أبداً في إرساء مقاربات جدّية وفعّالة لإزالة أسبابه ودواعيه. ومن هنا كانت حاجة السوريين بعد مضيّ ثلاث عشرة سنة من انتفاضتهم التي أرهقتها الكبوات وباتت مخنوقة جرّاء انسداد الأفق، إلى فضاء جديد من التفكير ضمن هواء أكثر خلوّاً من ترسّبات الاحتراق الماضية، وأكثر تحرّراً من مجمل أشكال التعاطي النمطي مع الأحداث والوقائع. ولكن واقع الحال يحيل – من جهة أخرى – إلى حالة من الاستعصاء النفسي والأخلاقي معاً، تبيّن أنه ربما يكون من الميسور على المرء أن يغادر ما شاء من الأمكنة والمواقع على المستوى الفيزيائي، بل ربما كان من اليسير عليه أيضاً استبدال إطار حزبي أو مدني بآخر، وكذلك ربما بات قادراً على استبدال الشعارات أو تغييرها، ولكن يبدو من العسير عليه أن يغادر أطواره الذهنية التي تتحكم بطرائق تفكيره ووسائل تعاطيه مع الأفكار والأحداث بآن معاً دون التزوّد بقدر هائل من الحسّ الأخلاقي والقدرة على تحدّي الذات والجرأة على مواجهتها، ولعله في ظل هذه الازدواجية القائمة بين الرغبوية العائمة في التنظير من جهة والسلوك المتعثر بعوالق الواقع من جهة أخرى، ما تزال تُطرح العديد من الأسئلة التي اعتاد السوريون على سماعها منذ أكثر من عقد، من مثل: لماذا لم يفلح السوريون في إرساء أسس ناظمة لحواراتهم البينية القائمة على الاحترام المتبادل والإقرار بحق الغير بإبداء الرأي والمشاركة في اتخاذ القرار؟ ولماذا أخفق السوريون على مدى سنوات في إنجازهم رؤية وطنية مشتركة تتجانس مع تطلعاتهم وتوازي مستوى تضحياتهم العظيمة؟ وما الذي يجعل أكثر تجارب العمل المشتركة تنتهي دائما إلى نهايات باتت متكررة ومألوفة قوامها التشظي المباغت أو التلاشي التدريجي؟ ولعل كثرة الأسئلة المطروحة يقابلها أيضاً أجوبة لا تخلو من النمطية التي تصل إلى حدّ الابتذال، كالإحالة إلى العوامل الخارجية وارتهان البعض لأجندات دولية، أو الإحالة إلى دور المال السياسي وتداعياته على العاملين في الشأن العام وما إلى ذلك من أمور لا تعنينا في هذا السياق، بقدر ما يعنينا الوقوف عند أنماط ثلاثة من التفكير، لشرائح مختلفة من العاملين في الشأن العام، ليس بقصد المقاربة القيمية لماهية الأشخاص، فهذا لا يعنينا بالطبع، بل لتفحّص طبيعة تعاطيها مع قضايا الشأن العام.
1 – ( الثوري) الذي لا يمكن أن يكون إلّا ربّاناً للسفينة، وإن لم يكن كذلك فلا يتردّد عن خرقها ولو أدّى ذلك إلى هلاكها بمن فيها، ولعل هذا الضرب من (الثورجية) لا تنحصر قدراته ومواهبه في جانب محدّد، بل هو شامل البراعة في ريادة أي ميدان من ميادين الشأن العام، فهو المتظاهر والمقاتل والسياسي ورجل القانون والمهندس والمخطط الاستراتيجي وووو، والعبارة التي لا تفارق منطقه حيال مواجهة أية مبادرة لا يكون على رأسها هي (من أنتم؟) فمن دونه يغدو الجميع نكرات، وسلاحه الأمضى هو تقزيم الآخرين والانتقاص من قدراتهم، وإن أعياه ذلك فلا يتردّد عن الاستعانة بحزمة من تضحياته: فيسرد عدد الشهداء من عائلته وما فقده من أملاك وما تعرض له من تهجير أو اعتقال، وبالتالي فإن المنجز الثوري – لدى هذا النموذج – يمنحه كامل المشروعية في مصادرة حق الآخرين في أن يكونوا مساوين له في الحقوق والواجبات، بل ربما تحوّلت هذه النزعة الثورية إلى شكل من أشكال التنمّر والسطوة وتعزيز النفوذ الشخصي، موازاة مع الانزياح عن أي ناظم أخلاقي، وبهذا لا تبدو النزعة الثورية لدى هذا النموذج بعيدة عن مفهوم ( الزعرنة ).
2 – (المثقف) الذي لا تكتسي عنده الأفكار والمواقف قيمتها الجوهرية إلّا حين تتبارك بتقبيل يده ومن ثم يمسح عليها بعصاه، فهو – والحال كذلك – شيخٌ مهيب مُكتنزٌ بالأفكار والمعارف والعلوم التي تحظى بكل سمات النبل، فقط حين تصدر عنه حصراً، أمّا وإن صدرت عن سواه فحينئذٍ تغدو عرضةً لكل صفات السذاجة والعبثية واللاجدوى، ولعله من الطبيعي أن يناهض هذا الضرب من (المثقفين) أي مبادرة أو عمل جماعي له صلة بالشأن العام حتى قبل التعرّف على فحواه وماهيته، إذ يكفي أن تكون هذه المبادرة أو ذاك العمل الجمعي قد صدرا من خارج صومعته ولم يحملا روائح بخوره. ولعله من الطبيعي أيضاً أن ينأى مثل هذا المثقف عن الانخراط في أي إطار تنظيمي أو المساهمة بأي عمل جمعي، بل هو يرفض مبدأ المشاركة بالأصل لأن وجوده – وفقاً لما يعتقد – يتقوّم على إحساسه الدائم بالتفرّد أو المفارقة لما هو عادي، وربما الدور الوحيد الذي يرتضيه لنفسه أو يتيح لأفكاره الانسياب إلى عالم البشر هو دور (الموجّه) أو (المُصدِّر) للأفكار والمواقف مع الحرص على ألّا تسهم هذه الأفكار في جعله قريباً ومألوفاً من الناس، إذ ربما أدّى ذلك إلى الانتقاص من وقاره الثقافي وفقاً لما يعتقد.
3 – عشاق الديمقراطية الذين خُيّل إليهم أن جميع السوريين ينعمون بالعيش بأمن واستقرار داخل بلادهم التي تحكمها سلطة مركزية واحدة وتتيح لجميع مواطنيها التعبير عن آرائهم واختيار ممثليهم، كما يمكن لجميع المواطنين السوريين أن يجوبوا المدن والبلدات السورية والترويج لمشاريعهم ومبادراتهم ذات الصلة بمستقبلهم، وربما خُيّل لهؤلاء أيضاً أن جميع السوريين في بلدان اللجوء أو ممّن هم في المخيمات، تجمعهم أطر تنظيمية تتيح التواصل معهم واستجلاء آرائهم، وانهم قد تجاوزوا مآسي اللجوء وتغلّبوا على أزماتهم المعيشية، وباتوا قادرين على المشاركة في صياغة مستقبل بلادهم على الرغم من وجودهم خارجها، أقول: ربما دفعت هذه الطاقة التخييلية الهائلة أصحاب هذا الاتجاه إلى مصادرة أية فكرة أو مبادرة ذات صلة بالشأن العام تصدر عن أفراد أو جماعات ما لم تكن مقرونة بتمثيل ناصع ودقيق ومشفوع بقاعدة بيانات وتصاريح ومعلومات داعمة لسلامة التمثيل وصحته، وبالتالي داعمة لسلامة العملية الديمقراطية.
لعله من المؤكّد أن الكثير من إخفاقات ثورة السوريين تحوّلت إلى علل مزمنة في سيرورتهم الحياتية، ولعل ما هو ثابت أيضاً أن دموية المشهد السوري قد أفرزت تداعيات شديدة الخطورة لا يمكن حصرها بأثرها المادي المحسوس فحسب، بل يمكن تلمّس فداحتها على الحيّز الجواني من نفوس السوريين بما في ذلك الأمزجة والطباع وطرائق التفكير وردود الأفعال بين بعضهم البعض، ولكن في الوقت ذاته ثمة أمور أيضاً لا يمكن مواجهتها بالتبرير واستسهال الإحالة إلى البواعث الخارجية، بل لا بد من تنظيف الجراح ولو أدّى ذلك إلى نكئها.
- تلفزيون سوريا