العالم الجديد، عالم ما بعد الكولونيالية، هو عالم أفكار مرعبة، حيث تتحول هذه النزعة إلى مجال يتجاوز برودة الحرب الأيديولوجية، إلى سخونة الحرب الأمنية والاقتصادية، وفي اتجاه يجعل البحث عن جدوى تلك الأفكار بمثابة البحث عن سرّ القوة التي تقف وراءها، وتدفعها إلى تمثيل وجودها خارج النصوص، والسياسات، والفلسفات، وعبر صياغات تدخل في صلب أزمة الإنسان المعاصر، إذ تتحول تلك الأفكار إلى خطابات مهيجة في اللغة، وإلى أناشيد عصابية في الحرب، وإلى أدلجات تجعل من الصراع الاجتماعي والسياسي، وكأنه صراع حول التاريخ والأديان والعقائد.
نهاية البطل الخارق، وموت الأسطورة، وبدء سلطة الأيديولوجيا جعلت من الأفكار، الأدوات السحرية، التي تصنع بطلا ضديا، ساحرا، ومفكرا، وماكرا على طريقة كيسنجر، ومخططا على طريقة بريجنسكي، أو ربما مُفكّرا سايكوباثيا داخل مطابخ السلطة، يدرك أهمية خطورة ربط الأفكار بالاستراتيجيات، وتحويلها إلى «أمراض» ثقافية ونفسية، وربما إلى برامج تهدف إلى «صناعة العدو» الذي يقوم بتزييف تلك الأيديولوجيا، تدوين التاريخ بوصفه سردا مؤسسيا، ومطبخيا وعسكريا ليصطنع لنا صورة خادعة لما سمّاه فوكوياما «الإنسان الأخير» الذي يملك شراهة سيميائية لصناعة «نهاية التاريخ» وربما لتكريس أوهام تجعل من الأفكار عناوين باذخة للميوعة والمخاتلة والتضليل، تقودنا إلى نسخ أكثر تعقيدا من الحروب الباردة، ومن الأنماط الضاغطة للاستهلاك والإغواء والجنوسة..
الاكتفاء بسلطة الأفكار، وبأساطيرها، لم يعد آمناً، فقد يدفع إلى صناعة المزيد من الفخاخ والأوهام، فالعالم الذي يعيش الآن أعتى نوبات الصراع الوجودي- عسكريا واقتصاديا وثقافيا وبيئيا- بات لا يثق كثيرا بتلك الأفكار التي مضى على صناعتها أكثر من 70 عاما، والتي جعلتنا متورطين بسرديات الرأسمالية والشيوعية، وصولا إلى سرديات الأصولية والاستهلاكية، وحتى «الصهيونية» فكيف لنا أن نتخلص من ذاكرة الخوف من تلك الأفكار؟ وهل ثمة مراجعة نقدية لوثائق وسرديات الاستعمار، وانقلابات كيسنجر وأزمات بريجنسكي، ولكل ما ارتبط بها من أفكار ملعونة؟ هذه الأسئلة قد تبدو صعبة، ومثيرة للجدل، لأنها ستكشف عن تاريخ سري لكثير من التواطؤات السياسية، والخيانات، وذلك لعلاقتها الخفية بعدد من الانقلابات والحروب القذرة التي عاشتها المنطقة العربية خلال عقود طويلة، والتي لم تكن بعيدة عن مطابخ الغرب، ولا عن أفكار مؤسساته ومراكز بحوثه الاستراتيجية.
الأفكار وحروب الجغرافيا
منذ أن انتهت الحرب الباردة، التي توصف بأنها حرب أفكار، حتى بدأت حروب ساخنة، أكثر عنفا بالظهور، وبتمثيل أكثر صخبا لـ«القوى الجديدة» المجروحة من حرب الأيديولوجيا، لتضعنا أمام عالم مُهدد بالزوال البايولوجي أو النووي، وبأخطار لم تعد العسكرة الرأسمالية وأسواقها وأدلجتها الليبرالية قادرة على مواجهتها، فالصين الناهضة، وروسيا الإمبراطورية، ودول البريكست، وجماعات العنف الأيديولوجي، باتوا أكثر فاعلين في صياغة عالم آخر، وعولمة مضادة، أضعفت أوهام سيطرة الآخر، ومن فرض شراهة «رأس المال» على السوق، وعلى الأيديولوجيا، وعلى المجال العام، ما يعكس خطورة احتكار الأفكار التي ظل الأقوياء الرأسماليون يتحصنون بها، وأن يروجوا لعالم لم يزل يتوهم بإطروحات هيغل عن السيد والعبد، و«الإنسان الأخير» وحتى النيوليبرالية، فقدت هي الأخرى مذاقها الفكري، وسحرها في تجميل أفكار ومعاني التفوّق المعرفي وفي إعطاء الحرية معاني فائقة في الاستعمال والتداول، وفي ضمان صياني لأنسنة الإنسان المحاصر بالتشيؤ، وبالرقابة الرقمية، وأخير بسلطة «الذكاء الصناعي» الذي سيصنع لنا كائنا مختبريا، يعيش تحت سطوة التطبيقات التي تتجاوز «الواقعية السحرية» في خارقيتها، وفي طاقتها على تحويل وجودنا الأرضي إلى وجود مُهدَد على الدوام، بدءا من تهديد الكولونيالية المجروحة، وليس انتهاء بـ«سرديات الإيكولوجيا» التي تعمل على إعادة الإنسان إلى الطبيعة، بعد أن أفقدته الإحساس بالقوة الفائقة، فما يجري الآن من تغيرات غرائبية في المناخ، تكشف عن ضآلة العقل الرأسمالي في المواجهة، وفي دفع المواطن المسكون برومانس الحريات والحقوق إلى البحث عن اطمئنانات تقيه رعب الأفكار الطبقية، ومن حرائق الأسلحة النووية التي يصنعها الكبار في الأرض، والتي باتت خاضعة إلى صياغات فكرية تراهن على لعبة أفكار الخوف التي يفرضها المحاربون على الجياع المسكونين بلعنة حروب الطرق والجغرافيا، وجعلهم تحت شروط ما يشبه لعبة الجحيم الدانتوي.
فوكو وجدل الافكار
لم يرد ميشيل فوكو، ولا أظنه كان يسعى إلى وضع حلول فلسفية لما يعانيه الإنسان المعاصر من أفكار مرعبة تخص الرقابة والاستبداد والكراهية التي تصنعها السلطات، فهو ينظر إلى تلك السلطات بوصفها مصدرا للتعالي، ومصدرا لامتلاك الأفكار «الترانستندالية» ووسائط العنف والعقاب، التي تجعل الثقة بها نوعا من التغاشش، ومن السيطرة والاحتواء، التي تجعل تلك السلطات أكثر تغوّلا، وأكثر رقابة على الواقع، وعلى صناعة الخطاب، وصولا إلى وضع «هندسة» متعالية للقمع والعقاب والمراقبة، التي تضع ذلك الإنسان أمام أزمته الحقيقية في الوجود، وأمام رغبته في البحث عن خلاص يكون الفرد ذاته هو الواسطة الفاعلة فيها، لأن الجماعات لم تعد تصنع سوى سردياتها الصغرى، التي تجعلها تتوهم البقاء رمزيا داخل النمط العصابي، وسط صناعات تقوم بها السلطات للسرديات الكبرى، التي تخص النظام، والدولة ورأس المال والشركات، ما يجعلها أكثر غلوا في السيطرة على الثروات والإرشيف والمتاحف والوثائق، وهي سيطرة تقوم في الجوهر على عدم الاعتراف بالآخر، الذي يملك مخازن تاريخية، وذاكرة تستنفره أحيانا على التمرد. كيف نظّر فوكو للإنسان المعاصر؟ وكيف كان يصدّق حكاية السرديات؟ وهل كان ينظر إلى ذلك الإنسان من زاوية نيتشوية؟ أم كان يراه معلولا بما تنتجه السلطة من أفكار ضاغطة، تجعله يعاني من أمراض فوبيا الحروب والاستهلاك والوعي الزائف الذي تصنعه الأيديولوجيا؟
أحسب أن التواتر في التعاطي مع هذه الأسئلة يجعلنا نستعيد معها أزمة الفكر «العولمي» وأزمة التحوّل في الصراع الفكري بين الرأسمالية المتوحشة، و«اليساريات» الجديدة، في روسيا والصين، بما تجعل الإنسان المعاصر أمام حروب مفتوحة، ومجاعات مُحتملة، وهجرات خطيرة تهدد الديموغرافيا والجغرافيا والبيئة والهويات، وصولا إلى استعادة أوهام الخوف من سلطة المختبرات، فبقدر ما ظلَّ الحديث غامضا عن «كوفيد19» وعن توصيفه كفيروس مختبري، تم تهريبه، أم كفيروس طبيعي له موطنه الطبيعي، لكن تمّ العبث به، فإن العالم تغيّر في توجيه فعل الاستجابات، وفي النظر إلى وظائف الأفكار التي قد تكون نظيرة للمختبرات، لأننا نحتاج فعلا إلى عقلاء وحكماء وإصلاحيين، ولا نحتاج إلى ثوار وجنرالات وخبراء استراتيجيين في المختبرات، وفي الشأن النووي والحروب البايولوجية..
هذه الحاجة أصبحت «سائلة» لمواجهة افتراضية مع «الشر السائل» كما يقول زيغمونت، وعلى نحوٍ يمكن أن يفضح الأفكار التي تقف خلف صناعة ذلك «العدو» الذي يسيطر على منظومة المختبرات والمعلومات ووسائل التواصل، ويجعل منها أقنعة، تسوّغ له مخاتلة العالم، وتوريطه في سرديات مخادعة، وطاردة، ومؤدلجة، كما يحدث الآن في العدوان على غزة، وفي حرب الأفكار التي تضج بها «الجامعات» الرصينة في الولايات المتحدة وفي أوروبا، والتي فضحت «الغش» الديمقراطي، وحرّضت على إعادة النظر بصناعة «الأفكار المؤدلجة» والعنصرية، والمواقف حول الإرهاب ومعاداة السامية والانحياز إلى اليسار القديم، حتى بدا المشهد وكأن هناك رعبا ثقافيا يهدد ديمقراطية الغرب، ويستعين بما يشبه أفكار المكارثية لمحاربة أفكار الأجيال الجديدة.
الإنسان بوصفه مواطنا اقتصاديا
قد لا تشفع الفلسفة، في أطروحات أفكارها «السائلة» في توصيف «إنسان ما بعد الحداثة» الساخط على المركزية، والمتورط بالمتاهة، والباحث عن توصيف جديد لإنسانيته، التي تحولت إلى لعبة سردية مفرطة، ومفتوحة على مفارقات من الصعب ضبط إيقاعها، فالنمط الرأسمالي الصاخب، لم يعد يحترم «الفلسفة» كثيرا، ويعدّ فلاسفة مثل سلافوي جيجك بوصفهم مهرجين، وأنهم يرجون لأفكار شعوبية، رغم أنهم يهجسون عبر منصاتهم ومدوناتهم الشخصية، بأن عالم الديمقراطية في الغرب لم يعد آمنا، وأنه يجعل من أفكار الهيمنة مصدرا للخوف، والتهديد، مثلما يجعل من السوق لعبة فائقة في الاستهلاك، ومن الصراع السياسي مع الآخر مجالا للبحث عن مركزيات متعالية، تعزز قوته، وفاعلية صورته الذهنية في المتخيل السياسي والأيديولوجي، وصولا إلى السيطرة على الأسواق والممرات المائية، لتسويغ فكرة ضبط العالم، وقطع الطريق على أي حرب للتنافس، ولوضع روسيا والصين وجماعة بريكست وشنغهاي، أمام تحديات يفرضها الواقع الأمني والعسكري وحتى الجيوبولوتيكي، كما في أوكرانيا، وفي تايوان، وفي الشرق الأوسط، وحتى في افريقيا بعد الانقلابات الصادمة في بعض دولها. الرهان على اقتصادات الحرب والجوع والدولار والنفط ليست بعيدة عن استثمارات السياسة، والأفكار التي تجعل من عديد الدول أمام تحديات كبرى، فتحويل الشرق إلى ترسانة للأسلحة، والدفع في اتجاه فرض قواعد صراع ضاغطة مع روسيا، لاسيما بعد المساعدات الكبرى التي قدمتها الولايات المتحدة لحكومة زيلينسكي، وكذلك التلويح الفرنسي بالمشاركة العسكرية، مقابل التهديد بـ«جوع عالمي» يرتبط بالحصار والعقوبات على روسيا، وعلى الممرات المائية، وبالتالي الدفع في اتجاه صناعة أفكار مغالية لعالم ما بعد الحرب الأوكرانية، وما بعد العدوان على غزة، والحرب في السودان، بما يجعل الحديث عن أفكار الهجرة والطرد واللجوء، وكأنها تهويمات وتحديات تؤطر العلاقة مع الآخر، وتحدد من هو الآخر، الأبيض، الأوروبي الغربي، الكاثوليكي، البروتستانتي، وهي أفكار تتم صياغتها في مطابخ «الغرب الأيديولوجي» الذي بات يجعل من طالبي اللجوء وكأنهم أوراق ضغط عالمي وإنساني، للترويج إلى أفكار العزل والمنع والرفض، كما صرحت به الجهات البريطانية بترحيل بعض طالبي اللجوء إلى رواندا، وهي عملية تحويل ليس جغرافيا فحسب، بل هو سياسي وسيميائي في تغيير هوية امكنة اللجوء، وفي إعادة توصيف جغرافيات العزل الإنساني..