يصبح العقل سؤالا غارقا في إشكالياته المعقدة، حالما يتعرض إلى أعطاب معرفية وتدبيرية تخرجه من سياقه الطبيعي والموضوعي، وتحول دون ممارسته لمهامه التنويرية المناطة به. وتتجسد مظاهر هذه الأعطاب، في إحساس الشعوب بحالة مزمنة من الانتكاس، خاصة في هذه المرحلة من تاريخ البشرية، المصابة بتكالب الأوبئة، وتزايد الكوارث البيئية المميتة، فضلا عن استفحال مخاطر الفواجع الباليستية، المنذرة باحتمال تبخر المشاريع الحضارية، التي طالما تحمست الشعوب لإنجازها، ما يدعو إلى القول، إن التوثيق لمسارات العقل، هو في حد ذاته توثيق لمجموعة ما يواكبه من أزمات حادة تعصف بحياة الأمم، وتجهز على آمالها في الحياة الحرة والكريمة. وبالتالي، فإن الخروج من هذا النفق يتوقف عمليا على اهتداء النخب إلى الأعطاب المؤثرة سلبا في حركية العقل، والعمل على الحد من تداعياتها.
وكما هو معلوم، فإن ضبط أسرار العلاقة القائمة بين المنهجية التدبيرية للعقل، والأزمات المحايثة له، هي الأرضية التي تأسست وتتأسس عليها الخطابات والسجالات الفكرية والفلسفية كافة، منذ الأزمنة الإغريقية القديمة إلى الآن، ذلك أن مقومات هذه العلاقة، هي جوهر كل تساؤل فكري وروحي، يتمحور حول هوية الكائن، باعتباره المعني المباشر بما كان وما سيكون. وبالنظر لحالة الغموض التي لاحق باستمرار حقيقة هذا الكائن، فإن العقل هو أيضا سيظل محتفظا بغموضه، كي يظل بامتياز الموضوع الأثير للمقاربات الفكرية والفلسفية.
وسيكون من الضروري في هذا السياق، الفصل بين تأويلين متضادين للعلاقة القائمة بين انحرافات العقل، وتداعياتها المنعكسة سلبا على حياة الشعوب. فثمة أولا التأويل الذي تهيمن فيه مقولة غياب «القيم الأخلاقية» المؤطرة سلفا بسلطة الواجب، حيث نستحضر في هذا السياق، وجهة نظر الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت بنبرتها الحداثية المغرقة في تشاؤميتها، التي تقدم لنا «عقل المرحلة» بوصفه طاقة سلبية، مجردة من الوازع الأخلاقي، ومتخصصة في تأزيم الواقع، بما يترتب عنه من تداعيات مأساوية.
وكما هو معلوم أن أرندت اعتمدت في بناء أنساقها الفكرية المنتصرة أساسا للعمل السياسي، على قناعة السلطة العدوانية التي يمارسها عقل «شرير» مؤطر بقوانينه الشمولية التوتاليتارية، التي أتت محارقها الجهنمية على الأخضر واليابس، خلال الحربين العالميتين. ويمكن اعتبار هذا التأويل امتدادا لمقولة «انحراف المسار التنويري» الحاضرة بقوة في خطابات فيلسوف القرن الثامن عشر إيمانويل كانط، حينما نبّه البشرية إلى وجوب «إعمال العقل» على قاعدة التمسك بأخلاق الواجب وقيمه، دون أن يعلم أن نهاية مطاف هذا الأفق التنويري، ستنتهي حتما إلى الاحتراق بلهب عقل مضاد، مغرق في نزوعاته التدميرية. وهنا تحديدا، سنجد أنفسنا إزاء تأويل مضاعف، تتبدد معه الأهمية التي كانت تحظى بها من قبل، منظومة الواجب الأخلاقي جملة وتفصيلا. ومفاد هذا التأويل هو، ذاك الطريق المسدود، المعبر عنه في خطابات الفيلسوف الألماني هابرماس، حيث يتبين لنا أن الخلل لم يعد مقترنا بالتدبير السيئ الصادر عن عقلية الأيديولوجيات المشهود لها بعنف ممارساتها الهيمنية والإقصائية، بقدر ما أصبح منطق اشتغال آلة العقل التدميري، هو المعني أساسا بالتساؤل. ذلك أن هذا العقل المتميز بهويته التقنية والتجريبية المتطرفة، استغل انشغال الخطابات الحداثية بمواجهة الأيديولوجيات الهيمنية، والأفكار النمطية، كي يتفرغ إلى الإطاحة بالمنجزات التنويرية، التي سبق لها أن تحققت في كنف المشروع التحديثي، حيث انبرى تدريجيا إلى ممارسة استقلاليته على ضوء منجزاته العلمية والتقنية الخاصة به، غير عابئ مطلقا بتك المناوشات النقدية والتوجيهية، التي دأبت على تقفي أثره بالتصحيح والمساءلة.
والجدير بالذكر أن هذا الانحراف حوّله إلى مسخ أسطوري، تتمظهر ملامحه في مختلف أنواع الاختلالات الحالية التي تعاني منها البشرية، بعد أن أمست – هي أيضا – مندرجة ضمن مشاريعه الاختبارية التي تحتل فيها الحروب التقنية مركز الصدارة.
هكذا، وفي خضم اعتداد العقل بذاته، بوصفه طاقة متفردة، وقادرة على التجنيح في مجهول عوالمها، شرع في إمطار البشرية بالجديد، وبالمفاجئ من الاختراقات التجريبية المعززة بنيران الإبادة. والظاهر أن نزوعه التدميري لا يعدو أن يكون في واقع الأمر، امتدادا لتمرده على جبروت اللاهوت، الذي طالما عانى من سلطته وتسلطه.
فمن هذا المنطلق تحديدا، ينبغي وضع عقل ما بعد الحداثة، في سياق الانحرافي والعدواني، والعمل على رصد نزوعاته التدميرية المصابة بجنون السلطة والتسلط، أي خارج علاقته القديمة والتقليدية، التي كانت تضعه سابقا في مواجهة الخرافة، الميثولوجيا، واللاهوت. لأن الاقتصار على مساءلته ضمن ملابسات هذه العلاقات التقليدية، من شأنه استبعاد مسار النقاش عن راهنية اللحظة، التي لم يعد فيها العقل مستعدا للاستمرار في الاضطلاع بتدبير الفضاءات المعرفية، بقدر ما انصرف وعن سبق إصرار، إلى تدبير كينونته الخاصة به.
بمعنى أن العقل بصيغته الباليستية الحالية، لم يعد يكتفي بالابتعاد عن أجواء الذات الإنسانية، بل شرع في الابتعاد عن ذاته أيضا، انسجاما مع تحولاته الحثيثة والمتسارعة التي طوحت به في مدارات اللامتناهي التقني، بما هي مدارات تجريبية بحتة، ليس لآليتها التدبيرية أي وعي بمفهوم الواجب الأخلاقي والإنساني. وهي آلية شرعت في ترسيخ مشروعتيها العلمية، على ضوء ما تحققه تباعا من نجاحات باهرة، في الحقل القتالي/الحربي المنفلت من عقاله. وكما هو واضح فنحن نحيل هنا على مجموع ما يتوزع على هذه المدارات التجريبية من محترفات، ومختبرات سرية، وعلنية، مكرسة بذلك أزمنة انحراف العقل عن مساراته الموضوعية، التي كان يمارس فيها إلى حين دوره التنويري.
والجدير بالذكر أن هذا الانحراف حوّله إلى مسخ أسطوري، تتمظهر ملامحه في مختلف أنواع الاختلالات الحالية التي تعاني منها البشرية، بعد أن أمست – هي أيضا – مندرجة ضمن مشاريعه الاختبارية التي تحتل فيها الحروب التقنية مركز الصدارة. ومن أخطر تداعيات هذه الوضعية، استحداث عوالم غامضة، توجد فيها كائنات «سرية» بعقل كبير، لكن دون قلب ولا روح، أي كائنات بعقل هجين، همجي ومتسلط، يأتمر العالم بأوامره، ويخضع لمشيئته المفرغة من عمقها الإنساني.
وفي ظل هذا الواقع المنذر بهيمنته التخريبية والتدميرية، التي تطال عدوانيتها السماوات والأراضي السبع، تبرز الحاجة القصوى إلى رقابة استثنائية، غير مشروطة بالمرجعيات الدوغمائية المجسدة في ثنائيات الخير والشر، الحلال والحرام، المباح والمحظور، التي لا تلبث أن تنقلب إلى ضدها في أي لحظة متوقعة، أو غير متوقعة، على ضوء معادلة الغالب والمغلوب. والرقابة الرمزية التي تعنينا في هذا التوصيف، هي رقابة إبداعية بامتياز، يحتل فيها «الشعري» مركز الصدارة، بما هو استدعاء ضمني لجوهر الروح الإنسانية، الذي يمكن رصده في فضاءات المبادرات الفنية والإبداعية كافة، كما في شبكة علاقات التواصل المنتصرة للحق في الحياة. ذلك أن المراهنة على إثراء فضاءات المعيش والمفكر فيه بطاقة الشعري، لدى العامة والخاصة، هي الكفيلة – إلى حد ما – بسريان وتدفق ذبذبة اليقظة الإنسانية في أوصال الكون، والحد من غلواء العقل التدميري وجبروته.
شاعر وكاتب مغربي
“القدس العربي”