عتبةُ القراءة لهذا النصّ، وقلّما تخطئ العتبات، هذا العنوان المعبّر: “الهشاشة أساساً”، وكأنّ الكاتبَ يَضعنا رأسًا أمام مصدر الابتكار ومآل الصياغة الفنّية: هشاشة الكائن الذي يُقاوم، عبر الإنتاج الجماليّ، الصّحافي منه والروائي والسينمائيّ، فظاعَة ما يَجري في الواقع. إذ أن الكتابة مَسارٌ عقلانيّ سعى من خلاله الكتّاب والفنّانون، الذين استُعيدت أعمالُهم هنا، إلى تنبيل تجارب الجَسد الهَشّ الذي يتبدّى كقَصبة تهزّها رياح الفضاء الخارجيّ، فضاءِ السلطة وخطابها التوظيفيّ.
في ظاهره، يبدو هذا المُؤَلّف ضمًّا لسلسلة مقالاتٍ صّحافيّة كُتبت على امتداد ما يقرب من العقديْن، (1995-2010) تناولت موضوعات شتّى تتّصل بنقد النصوص والأفلام واللوحات التي أنتِجت في لبنان في الفترة نفسها. إلا أنّ الغاية من وراء هذا الجَمع ليست التوثيق التاريخيّ لأحداث ما بعد الحرب، وإنّما الوقوف على الخصائص المشتركة التي تجعل من الفنّ اللبنانيّ، أنّى كانت مَشاربُه وأساليبُه، يَنْضَحُ فرادةً تميّزه عن سائر الفُنون في الوطن العربيّ.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: ففي القسم الأول، تركّز المقالات على الصورة، ومن هنا جاء عنوانها: “هذه صورتنا”، وبعدها يردُ قسم “الكتابة اللبنانيّة” وفيه تتالى دراساتٌ عن الجسد بما هي موضوعٌ للإكراه الرمزيّ، وأخيرًا “إيقاع الفتنة” الذي يتضمّن تحليلات لغويّة ونقديّة للوحات تشكيليّة تعود إلى فعّاليات فنّية مختلفة شهدها لبنان. ويظل الخيط الناظم لهذه الأقسام الانهمام بالجَسد موضوعًا للفَن واللغة والرقابة المقدّسة، دينًا ومجتمعًا. انهمام جعل من الجسد بؤرة تتركز فيها الصّور والتمثلات، في ظلّ زمن خاضِع إلى إملاءات العَولمة التي فَرضَتْ قوانينَها الكليانية والاستهلاكية، بعدما باتت النموذج الأوحد المفروض على الوَعي والسلوك. محور هذه المقالات إذن هو أثر الكتابة وسيلةً لعقلنة الأفكار وهي تستعيد الجسد عبر لمساتٍ فنّية ترتّب وضعياته التائهة في فوضى القيود والتوظيف والاستغلال والشَّعرَنة.
وترشح هذه المقالات بحسّ سوسيولوجي واضح يتمثّل في تقديم العبد الله لدراسات اجتماعيّة، لأمثال رالف رزق الله ومسعود يونس، بعد إجرائهم لأبحاثٍ ميدانيّة حول بعض الطقوس السّائدة في لبنان، طيلة العقود الأخيرة، وقد استعادها العبد الله سعيًا وراء تفكيك وظائفها ودلالاتها، مثل ما أُنجِز عن طقوس الصّلاة عند المسيحيّين والمسلمين سنّةً وشيعةً، وبحثٍ آخر عن شعائر عاشوراء في علاقاتها بالسّيطرة على الجسد، بما هو وحدة بيو-سياسيّة، والمفهوم لميشال فوكو. هذا الحسّ السوسيولوجي هو ما ظهر أيضًا لدى تقديمه لشعائريّة الموت وانتقال زوجة الفقيد إلى وضع “الأرملة”، وما يتبع ذلك من صمتٍ وسَواد وحِداد.
وهكذا تدور هذه المقالات على لبنان محورًا وحقلاً وتتضمن دراساتٍ نقديّة واجتماعيّة حول أنظمته الرمزيّة وخطاباته التي تتعدّد بتعدّد الطوائف والجماعات، كما تتصل بقراءة معمقة لأهمّ الأعمال السينمائيّة التي ظهرت في العقود الثلاثة الماضية، فكانت مرآةً لما اعتمل، في لبنان، من صراعات وتغييرات ولا سيما في الفترة الفاصلة بين 1995 و2010 مع التّركيز على الثمن الباهض للصّورة في ظلّ هشاشة البلد والأدب والإنسان، صورة ذلك الجسد الذي تعمل السلطات على التلاعب به وبما يُبنى عنه من تمثلاتٍ، في ذات الآن الذي يعمل فيه الفنانون والمفكّرون على فضح آليات التلاعب به. صراع صامت يجري تحت سقف رداءةٍ حدّ الانهيار، تقلق الوعيَ وتعمّقه، فتمتح الكتابة عنه أسطرَها من مادّة اليأس.
تُفهم أصالة هذه المقالات إذا تذكرنا أنّ سلطات البلد، والتي كانت تقمع المجال السياسي، تَركت المجال الفني حرًّا إجمالاً، وهو ما جعل هذا الحقل “الفضاء الوحيد الذي طرح وبقوة آنذاك الأسئلة السياسية العميقة”. فلئن مورست الرّقابة على العمل السياسي ضمنا وصراحةً بسبب الحضور العسكري السّوري، فإنّ الحقل الفنّي حافَظ على ضربٍ من الاستقلالية مَكّنته من إثارة الإشكالات السياسيّة والمجتمعيّة الأكثر راهنيّة مثل قضية الجسد. كان الاستثناء النّادر قضيّة مارسيل خليفة الذي غنّى قصيدة لمحمود درويش ضمّنها آيةً قرآنية، رأت فيها بعض الجهات مساسًا بالمقدس.
وقد صيغ جلُّ هذه الدراسات، رغم حسّها النقدي وصرامة توثيقها، في قالَب شعريّ، سَداه صورٌ وإيقاعاتٌ، تكاد تَتتابع في كلّ جُملة، إذ تنساب مجازات بعيدة واستعارات جزلة، طيَّ الوَحدات السرديّة والوصفيّة، فترمي بالخيال في أقاصي اللغة الشّعريّة، وتمدّها بنغم يُهدهد القارئ أو يؤرّقه. في كلّ جملة، صورة من الشّعر لحمتُها تُزعج البَداهات السّائدة وتُرينا ما نَسيناه.
إلا أن هذا الأسلوب يختلف بحسب المَوضوعات، فيصير وصفيًّا حين يتعلق الأمر بعرض النصوص وتفكيك ما تضمّنَته من الأفكار والظواهر، لكنّه يغدو أكثرَ ذاتيّةً حين يتعلق بتحليل إسهامات الفنّ المعاصر ودراسة آثاره، فيعطي مساحَةً أوسع للغة الشعريّة لتَغوص في أعماق النفس البشريّة، والجسد غلافُها الظاهر. ولا يخفي فادي العبد الله أنّ قلمه، عمومًا، نَتج عن تفاعل بين طريقة الكتابة والتحليل التي استفادها من تكوينه القانوني -فالرّجل قد دَرس علوم القانون بجامعات القاهرة وباريس وهو الآن المتحدّث الرسمي باسم المحكمَة الجنائية الدولية في لاهاي (هولندا)ـ وعن خَلَجات الشعريّة التي تعتمل في ذاكرته.
هذا الكتاب دليلٌ آخر على إمكانيّة الجمع بين التكوين القانونيّ والحسّ الأدبيّ المُرهف، وأنهما، إن تمازجا، ينحَلاّن إلى ضَربٍ من الملاحظة الاجتماعيّة والتوصيف الإناسي اللذيْن ينصبّان على الجَسد بؤرة تفكيكٍ وحَجَرَ زاويةٍ في هذه الهَشاشة السائدة، والتي تصبح متانةً مؤثّرةً، بمجرد مرورها عبر أقنية الكلمة الجماليّة. فالهشاشة أساس الفنّ وحجر هرمه الثابت الذي يتحدّى الزّمن، عدوَّها الأول ومَجال حركتها.
الهشاشة حركة وقوة تحرّر تغذي الكتابة، بما هي فعل ذاتيّ يَجري عبر اللغة وداخل فضاء النص، بكلّ إملاءاته وذاكراته، لتحلّل العالَم الذي يتأرجح ما بين الجسد والصورة من أجل الإمساك بما سمّاه هنري برغسون: “الديمومة الذاتيّة” أو الزمن الخاص الذي تتبوّأ فيه الذات عرشَ الممكنات، بل وتغدو الممكن الوحيد الصادق، وما عداها أقنعة وقيودٌ يبثّها الزّمن العام، زَمن السلطات التي تتحدّد ماهيتُها بقوة المؤسسات والايديولوجيات.
“المدن”