احتدمت النقاشات السورية، خاصة في الوسط المعارض، مع وفاة الكاتب والسيناريست السوري حكم البابا، باعتباره نموذجاً عن «انحراف» خطاب الثورة السورية نحو أشد أشكال الطائفية فجاجة، وأكثرها ابتعاداً عن أي مشروع وطني قد يعطي الأمل بتجاوز «محنة السوريين». لم ينس كثيرون لغة البابا شديدة الفظاظة في الانتقاص من طوائف ومجموعات سورية بعينها، وتأييده للجماعات الإسلامية المتطرّفة، بل تحريضه ضد شخصيات عامة معروفة. لم يترك الرجل لنفسه كثيراً من الأصدقاء، لدرجة أن معارك اندلعت على وسائل التواصل الاجتماعي لمجرد أن البعض ذكره بالخير بعد وفاته. يبدو أن البابا كان تجسيداً شديد التكثيف لكل قسوة الصراع السوري.
ربما لا تكون كل تلك الحدة ضد الراحل مجرّد تحامل عليه، أو تحميله لمسؤوليات أكبر منه، فهو في النهاية «صوت عام» له تأثيره في الخطاب السياسي والثقافي السائد، وعلى وعي متابعيه، وبالتالي فهو مشارك، مع غيره من النخب، في صياغة لغة الثورة والمعارضة السورية، وهي لغة يصعب القول إنها كانت مفيدة لقضيتها، سواء على مستوى التحليل، أو صياغة الرؤى السياسية. رغم هذا فإن حالة البابا أكثر تعقيداً من مجرد هستيريا طائفية انتابت كاتباً معروفاً، يمكن التفتيش عن أسبابها في ضميره، أو عقده النفسية الفردية، إذ لا بد من بيئة ثقافية وسياسية عامة، من الممكن فيها إطلاق تصريحاته التي أثارت غضب كثيرين، وتلك البيئة ليست فقط الحرب السورية، بما عرفته من مجازر وقتل طائفي ووقائع مروّعة، بل البنية السورية نفسها، التي كانت مسرح الحرب، أي مجمل الشرط الاجتماعي، الذي انفجر مؤدياً لواحدة من أبشع حروب قرننا الحالي.
عمل البابا في تلك البنية قبل انفجارها، وترك أثراً لا يمحى: دواوين شعرية متعددة؛ عشرات المعارك الصحافية؛ مسلسلات هزلية وصفت بـ«الجريئة»؛ بل انتقادات شديدة الصراحة والمباشرة للنظام الحاكم. في مسلسله «قلّة ذوق وكترة غلبة» الذي من المفترض أنه يعالج قضية اجتماعية اعتيادية (سعي رب عائلة للزواج بعد وفاة زوجته، ومعارضة أبنائه لذلك) سمع المشاهدون السوريون على لسان إحدى الشخصيات وصفاً كوميدياً للجلد بالكابلات الكهربائية في سجون النظام؛ أما مسلسل «أيام الولدنة» فكان سخرية مباشرة من المنظومة الأمنية السورية. إلا أن كل هذا الإنتاج لم يحقق كثيراً من التراكم الثقافي. في سنواته الأخيرة بعد الحرب عكف البابا على كتابة منشورات انفعالية وتحريضية على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن تخيّل أنها صادرة عن زعيم ميليشيا طائفية شبه أمّي. قد يكون الأجدى التساؤل عن سبب تعذّر التراكم: لماذا ظلّ البابا، وربما الثقافة السورية كلها، عالقين في «قلّة الذوق وكترة الغلبة» التي وصفها في مسلسلاته؟ وهل «الجرأة في القول» في السياق السوري ستوصل حتماً إلى نتيجة مشابهة لمآل الكاتب الراحل؟
تدريبات في «الحرية»
في كتابه «معارك صحافية: من الثقافة إلى السياسة» يرى البابا أنه يمكن اعتبار المقالات المجمّعة في الكتاب تعلّماً لـ«حركات الحرية الأولى» مطالباً قارئه بـ«اعتباره كتاباً في التدرُّب على قول «لا الانتحارية». المقالات لا تحوي أكثر من «فضح» و«تعرية» لسلوكيات المثقفين السوريين المتواطئين مع السلطة الحاكمة، إلا أن ذلك كان يتطلّب آنذاك ما اعتبره الكاتب «شجاعة انتحارية». يبدو أن «التدرّب على الحرية» في الشرط السوري كان يعني أساساً إبداء الرأي بأكثر الصيغ صراحة، وربما فظاظة، في وجه أساليب التورية والمخاتلة، التي برع فيها كثير من المثقفين السوريين. رأى البابا أن هؤلاء يكذبون، ولا يشيرون إلى الوقائع العينية التي يعيشها الجميع، وبالتالي فأفضل ما يفعله المثقف هو قول ما يراه ويظنّه بشكل مباشر، حتى لو بدا أقرب للشتائم، وكانت له أثمان باهظة.
قد يكون هذا مفهوماً فقيراً للحرية، يجعلها أقرب للمشاكسة: هنالك حقائق بسيطة وواضحة، لا بد أن يصرخ بها أحدٌ بصوت عالٍ، محرجاً الجميع، وكاشفاً نفاقهم. يصعب أن تُنتج هكذا «حرية» رؤى متعمقة ومركّبة للبنى الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة، أو نقداً جدياً ومؤثّراً لها، وربما لهذا ظل البابا قادراً على الكتابة والنشر، رغم كل المضايقات الأمنية التي تعرّض لها، فهو لم ينته معتقلاً سياسياً مثلاً.. «حريته» لم تكن مخيفة جداً للنظام. إلا أنه من المجحف لوم البابا على فقر المفهوم، إذ لم يكن في إمكانه سوى «التدرّب» على الحرية بهذه الطريقة، لأنه لم يستطع أن يعيشها ويمارسها فعلياً. في «البيئة السورية» التي نشأ فيها لم يكن هناك إلا عدد محدود من الجرائد ووسائل الإعلام ودور النشر والجامعات؛ ووسط صغير ومغلق من منتجي الثقافة؛ وعلاقات اجتماعية شديدة التحفّظ والخمول، لا تتحرّك إلا بشكل بالغ البطء. في اختصار عاش الكاتب السوري في شرط مديني منكمش وهزيل، غير قادر على إنتاج قنوات سياسية أو ثقافية للتعبير عن الصراع الاجتماعي، تبدو معه أكثر الأفكار والنظريات تعقيداً وأهمية مجرّد هراء، فيما يظهر الواقع حافلاً بعوامل الانفجار. حاول البابا أن «يفجّر» نفسه بهذا الواقع، قبل انفجاره الفعلي بسنوات.
ربما كان وجود البابا ضرورياً للنزعات التطهّريّة السورية، فلنشتم «القبيح» حتى بعد وفاته، بدلاً من تحليل البنى التي أنتجت كل هذه المآسي، هذا أفضل للحفاظ على صورة الذات، دون تعريضها لأسئلة صعبة ومحرجة.
يمكن القول إن «البيئة السورية» لم تكن قادرة إلا على إنتاج «المنافقين» الذين كرههم البابا، و«الانتحاريين» من أمثاله، وهذا جعل الجدل الثقافي السوري طيلة عقود أشبه بنميمة متواصلة لا تنتهي، تقوم على شخصنة كل المسائل، والتعامل معها بمنطق الفضيحة: مثقفون يعرفون بعضهم بشكل شخصي، ويتراشقون بالاتهامات حول التواطؤ والعمالة للنظام؛ الفساد المالي والجنسي؛ الجهل و«الأمية المقنّعة». لم توجد تيارات سياسية أو ثقافية لتتجادل، أو حتى تتصارع، حول الأفكار والطروحات. إنه الترييف الأشمل للثقافة الذي عرفته البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي على الأقل.
كلنا طائفيون!
وسط هذا الترييف كانت الطائفية «الفيل في الغرفة» الذي لا يتكلّم عنه أحد، إلا بعض المنفيين الإسلاميين، ليس بسبب قمع النظام فقط، بل لأن الثقافة السائدة، ذات الجذر القومي واليساري، لم تكن ستتقبّل هذا «التخلّف» و«النزعات قبل الوطنية». هكذا عاش المثقفون السوريون في حالة فصام غريبة بين واقع راكد، مليء بالممارسات العصبوية وشبه الطائفية؛ وجُمل إنشائية ذات ادعاءات كبيرة عن «الوطن». وربما ما راكمه البابا، خلال تلك السنوات، لم يكن أكثر من المرارة من هذا التناقض، الذي لم يكن قادراً على «فضحه» آنذاك. طائفية حكم البابا بعد الحرب لم تكن بسبب تعصّبه الديني، فهو غالباً كان مثقفاً ليبرالياً وغير ملتزم دينياً، لكنها انبنت على قراءته الخاصة للوضع السوري: في بنية اجتماعية وسياسية قائمة على تصنيف البشر لعُصب، تُحدّد بناءً على عوامل شديدة «التقاطعية» مثل المذهب الديني؛ المنطقة؛ الأصل الريفي أو المديني؛ الطبقة، لا معنى لإنكار مكابر للعصبوية. كلنا طائفيون، والحل هو التصرّف وفق هذا «الواقع». لم يكن البابا الطائفي الوحيد في سوريا، لكنه تعامل مع موضوع الطائفية بالطريقة «الانتحارية» نفسها التي مارس فيها «تدريباته على الحرية». قرر أن يقول بجرأة وفظاظة ما اعتبره الحق، بناءً على تحليل اجتماعي مبسّط، وربما يكون شديد السطحية للوضع السوري، فلا فائدة في نظره من التورية وإنكار «الحقائق»: هنالك مجزرة تنفذها طائفة بحق طائفة أخرى، ويجب التصرّف لردع تلك الطائفة استراتيجياً عن الاستمرار في المجزرة.
ربما كانت لدى البابا الشجاعة ليعبّر عن رؤيته، متخليّاً عن كل أساليب المناورة التي ألفتها الثقافة السورية، المُصرّة على شعارات «صحيحة» غالباً ما تكون مكتوبة؛ للتهرّب من «الحقيقة» المتداولة شفوياً في الجلسات الخاصة والغرف المغلقة.
الجيد والقبيح
لا ترفض الثقافة السورية السائدة تصريحات البابا ومنشوراته التحريضية، لأنها تملك تحليلاً أو خطاباً أفضل، بل لأنه يلعب دور «القبيح» فيها، وهو تعبير مأخوذ من فيلم الويسترن الأمريكي الشهير «الجيد والسيئ والقبيح». يفضّل كثير من المثقفين السوريين أن يكون «الجيد» في الفيلم، أي صاحب الخطاب الأخلاقي والمتطهّر، الذي يقول ما هو مقبول خطابياً، بغض النظر عن فائدته التحليلية، أو نجاعته العملية، أو حتى نتائجه المنطقية. أصرّ هؤلاء على تبسيط المسائل بحيث تصبح قضية «شعب مظلوم خذله العالم» أي الغرب، الذي كان يجب أن يتدخّل عسكرياً، ليقوم بالمهام القذرة، التي رفضوا تحديدها بصراحة في حرب أهلية شديدة الدموية. وبما أن النظام يلعب دور «الشرير» في الفيلم، وإدانته متفق عليها بين كثير من الأطراف، ولا تضيف جديداً، فلم يبق إلا صب جام الغضب على «القبيح» وأكثر تجسيداته وضوحاً حكم البابا، أي الشخص الذي قال بوقاحة، ودون محسّنات إنشائية، المؤدّى الفعلي لنظرتهم للأمور والعالم.
ربما كان وجود البابا ضرورياً للنزعات التطهّريّة السورية، فلنشتم «القبيح» حتى بعد وفاته، بدلاً من تحليل البنى التي أنتجت كل هذه المآسي، هذا أفضل للحفاظ على صورة الذات، دون تعريضها لأسئلة صعبة ومحرجة.
كاتب سوري
“القدس العربي”