عادة ما يكون الحوار الفلسفي مجديا، عندما يعرض قضايا تهم ما يمور في داخل الإنسان، بل عادة ما يستأثر باهتمام بالغ عندما يسافر في كينونة مفتوحة على الإبدال والقطائع. إن الإنصات إلى الجوهر الإنساني، نرى من خلاله أن الصورة، في المتخيل، انبثقت من متعدد التجارب، بل إن الإنسان هو الصورة أو الصور، التي بها وعبرها يتحرك وينام ويناقش ويرفض، ويحيا الحياة في استمراريتها الأبدية والدائمة.
في حوارات أفلاطون مع فيدون قال: «إن من تمسك بالصورة تمسك بالروح». فمن خلال هذا المعطى، تأتينا زوابعُ ذهنيَّةٌ قلبت مجرى التاريخ الفلسفي. وذلك عندما سيطر العقلانيون على مداخل ومخارج كل الأنشطة المعرفية، التي يزاولها الإنسان في مختلف تواصلاته مع الذات والطبيعة. بمجاراة ذلك كان العقل يدحض الشك، ويقضي على الأوهام والأساطير، ويسد الذرائع أمام الخطأ والزلل، الذي كان ميْسم المتخيل ظنا منهم أن المرء ما هو إلا جهاز يحلل، ويستنبط، ويكتشف بعيدا عن التمثلات، التي تأتيه، وهو غارق في المتعقل.
أرسطو أعدم المتخيل، بينما أفلاطون قبله كتب الأساطير، وما تعلق بالروح وعودتها إلى الجسد بعد الفناء المادي للمرئيات في الطبيعة. فكل الحدوس هي عبارة عن صور تأتينا بين الفهم والإدراك، وما من أمر إلا وتجد أن الرمز حاضر في كل الأنشطة المزاولة، والتي سوف تزاول مستقبلا. ففي هذه المحاورة التاريخية والفلسفية، بين فيدون وأفلاطون، أعطيت إشارات واضحة إلى أن الإنسان مكمن الوجود، من خلال سيطرته على قدرات قاهرة للطبيعة. وعلى امتداد ثمانية قرون، كانت هيمنة العقل جلية على مختلف الأنشطة المعرفية للإنسان، وفي تجاهل تام للمتخيل البشري.
ومع روني ديكارت، في القرن السادس عشر، ظهر ما يسمى بالعقل الشكّي، كمنطق، في تحليل الظواهر الثقافية، وكل الأنشطة المعرفية والعلمية. بما هو أسلوب اختار طريقه نحو الخيمة الأدبية العربية، وما كان طه حسين إلا من الرعيل الذي سهر على تفكيك البناء الثقافي العربي، من خلال الشك والريب الذي طال الشعر الجاهلي. وإبرازا لذلك، فال،لسفة الديكارتية لا تؤمن إلا بالأقنوم الرياضي والفيزيائي، باعتباره المحرك الأساس للظواهر الطبيعية، الذي من خلاله يريد إخضاع، هذه الأخيرة، للسيطرة والتحكم. وبمجيء عمانوئيل كانط، خلال القرن الثامن عشر، تغيرت الخريطة المعرفية والفلسفية في أوروبا، من خلال كتابه «نقد العقل المحض» فلم يعد البرهان والاستدلال العقلي والمنطقي مرتبطا بالعقل المعرفي وحده، بل أضحى شديد الارتباط بملكات جوهرية تدفع الإنسان إلى العودة إلى المخزون الثقافي والرمزي، بهدف التحجج والاستدلال والإقناع. وبالتالي كان، بمثابة، المنطلق الأساس نحو بعث المتخيل من هسيس الرماد، بعدما تم إقباره كملكة فاعلة، وشرط جوهري في الحياة المعرفية والعلمية عند الإنسان.
إن المعرفة العلمية لا تستقيم، حسب جلبير دوران، إلا من خلال البحث في الحوض الدلالي للأنثروبولوجيا، التي تعمل على تشريح هذه المعرفة، فضلا عن أنها تمنطق الوجود الإنساني، وتملأ فراغات معرفية دائمة، ومستمرة البحث عن توازن نفسي مفتقد. في الموازاة مع ذلك، فهل الإنسان خاضع للمتخيل أم للمتعقل؟
إن ما فعله السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي في كتابيه «النقد المزدوج» و»صورة الأجنبي» مؤشر واضح على أن المتخيل مرتبط بالحوض الثقافي والدلالي، الذي يولد التواصل عبر قنوات معرفية وأنثروبولوجية.
إن ما فعله السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي في كتابيه «النقد المزدوج» و»صورة الأجنبي» مؤشر واضح على أن المتخيل مرتبط بالحوض الثقافي والدلالي، الذي يولد التواصل عبر قنوات معرفية وأنثروبولوجية. إن عملية التواصل لا تتم إلا عبر دلائل رمزية وأخلاقية، يُتوخى منها تجسير معرفي، بحاجة أبدية إلى التأويل والتفسير. فمن خلال «صورة الأجنبي» شرَّح الخطيبي موقف الطبيب الفرنسي، وموثق الأدوية الاستشفائية فيكتور سيغالين، الذي كان ينظر إلى الآخر؛ المشرقي ـ الآسيوي كامتداد شرعي للذات الغربية، حيث إن السفر، واكتشاف الصين، بالنسبة لسيغالين، وهو في بعثة طبية، ما هو إلا ملء لفراغات أحدثها العقل المفهومي طيلة قرون من النهضة المعرفية والعلمية في أوروبا. غير أن التواصل، حسب تفكيكية دريدا، لا يقوم فقط على البحث في الأسس الأنثروبولوجية، التي تشكل الحوض الدلالي والمعرفي عند الإنسان، بل في الاستعانة بعلوم مجاورة لتشخيص هذا التواصل بين ـ ذاتي؛ لأن المتخيل مرتبط بالسوسيولوجيا المعرفية والثقافية، حيث يحتل فيها الآخر العمود الأسنى.
وبناء عليه، فالإبداع ما هو إلا عملية تواصلية يقدم عليها المبدع بهدف تجاوز مستمر لحالة عدم الاستقرار، الذي يفرضه الواقع وتنميطاته. وليس هروبا مزعوما منه، والاختباء وراء ترسانة من الرموز، تفرضها الكتابة الأدبية. ففي رواية «موت مختلف» لمحمد برادة كان الآخر محط الشهوة في استمرار دافع اكتشاف وهروب من الطبيعة؛ لأن العلاقة التي ربطتها كاترين زوجة منير بالمحامية الشابة، بمثابة سفر للبحث عن قوة وضعف الآخر، من خلال هذه العلاقة، التي تطورت إلى مكاشفة عن مناطق جد حساسة وحميمية من الجسد المفهومي، الذي ينطوي على رسائل تغري الوجود وتتحداه في الآن نفسه.
فطروس الإبداع ليست على مقربة من الواقع، وإنما سفر عبر الذات كي تبحث عن تواصل منشود، وشحنات كهربائية تضمن اللحمة بين ـ ذاتي، والانفلات من انعدام التوازن، الذي يفقد البوصلة والعيش والكتابة. فكثيرة هي المواقف التي نستند فيها إلى منطق المتخيل، بعيدا عن المتعقل، بل إن الحوض الدلالي أو الخزان المعرفي الهائل، الذي يعج بالصور والرموز والإشارات والإيحاءات يمنحنا دفئا تواصليا، ليس على مستوى الفهم والإدراك، وإنما للتأويل والدلالة المتوخاة من السلوك، وأحيانا من الإبداع. فالطفل الصغير عندما يراكم العديد من التنبيهات حول خطر الصعود أو الهبوط من درج المنزل مثلا، فإن المتخيل يصبح هو المتحكم والمحرك الأساس في سلوكه لا العقل؛ لأن المتخيل بوظيفته الكيميائية، يعود به إلى حوض الصور والرموز الدلالية التي صاحبته، وهو يتلقى إشارات التحذير من الهبوط على درج المنزل. وفيه اقتصاد للعقل من المجهود، الذي قد يبدله من الطاقة الفاعلة. فالإنسان عالم من الصور والدلالات راكمها في حوضه، بما هي تنير له المواقف، ويتخذها أسلوبا يعيش من جرائها عبر فك هذه الترسانة من الرموز، أملا في إحداث تواصلات داخلية، تضمن له الاستمرارية في الوجود والحياة والعيش أيضا.
كاتب مغربي
“القدس العربي”