سنة 2005 وفي لقاء قصير عبر البرنامج الصباحي اليومي (تلفزيون الصباح) Tele matin الذي بثته القناة الفرنسية الخامسة TV5 Monde، عاد شارل أزنافور المطرب العالمي الشهير بذاكرة جمهوره إلى ستينيات القرن الماضي، عبر جملته الأهم «العمل ضروري لنمتلك الخيال الخصب». وكانت تلك الجملة إجابةً فيها الكثير من الواقعية، لأنه خرج من خلالها من الفخ «القومي» بعد أن سأله مقدم البرنامج عن أصوله الأرمينية أجاب بأنه يعتز بها، كما يعتز بنشأته في فرنسا، حيث أجاب بكل وضوح (أنا فرنسي من أصول أرمنية) مُشدَّداً على أنه نشأ على أنغام أغاني البهجة في (الحي اللاتيني) في باريس، عندما كان الفرنسيون ينشدون بلا توقُّف: (أيها الأخ جاك استيقظ واقرع أجراس الفرح) مؤكِّداً أيضاً أنه ابن لأبوين أرمنيين مهاجرين يدعيان ميخائيل أزنافوريان وكنار باغداساريان. وعند سؤاله عن النمط الذي يقدمه في أغانيه للجمهور الفرنسي والعالمي أجاب أزنافور: (على الرغم من أنني لا أعرف الكثير عن الشعر الفرنسي، فكما تعرف تركتُ الدراسة في سن مبكرة، إلا أنني أشعر بأن الكلمات الفرنسية جميلة، أنيقة وراقية وليست بحاجة إلى أوزان أو طريقة نظم، لأنني كتبتُ الكثير من الأغنيات الفرنسية بلغة عامية مفهومة لجميع الفرانكوفونيين حول العالم ويستطيع من يسمعها من غير الفرانكوفونيين أن يتحسس رقتها وموسيقاها النابعة من شوارع باريس، ونسيم جنوب فرنسا، وأنهار منطقة لولوار، وجمال الطبيعة والناس في النورماندي.. لقد كتبتُ لأعبِّر عن الحقيقي والعميق والبعيد عن التَكلُّف).
بالعودة إلى مسيرة شاه نور فاغيناغ أزنافوريان (الاسم الأرمني لشارل أزنافور) نجد أنه ترك المدرسة في سن التاسعة، في هذه السن بالذات استمتع وحفظ أغنية موريس شوفالييه Donnez Moi La Main Mamzelle Et Ne Dites Rien) «أعطيني يدكِ آنستي ولا تقولي شيئاً» حيث كان يتوق للعيش كفنان في باريس التي ولد فيها في الثاني والعشرين من أيار/مايو عام 1924. ربما كان لمحيط أزنافور الفضل في تقديمه للعالم، فقد غَنَّى والده بصوت رجولي أجش في مطعم كان يملكه، بينما كانت أمه ممثلة، وقد شجعاه للولوج إلى عالم المسرح في سن مبكرة، بسبب الإرث الفني للعائلة الأرمينية التي ينحدر منها (شاه نور) فبدأ بمشروعه ليصعد على خشبة المسرح باسم شارل أزنافور. يشير المقربون منه إلى أنه قبل بداية حفلاته الغنائية كان يعتلي خشبة المسرح لينشد قصائد أرمنية تعلَّمَها من والدته، منذ بداية مشواره الفني أمام 600 أرمني كانوا يحضرون أغانيه في باريس.
الحدث المهم والرئيسي الذي غيَّر حياة المراهق شاه نور، كان عندما سمعته المطربة الفرنسية الشهيرة إديت بياف يغني، فقررت اصطحابه معها في جولة في أرجاء فرنسا، ما لبث بعد ذلك أن سافر معها في جولة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن عادا إلى فرنسا زاد إعجاب إديت بياف فطلبت منه أن يغني معها دويتو plus bleu que tes Yeux(عيناكِ الأكثر زرقة). لعل وصف شارل أزنافور بفرانك سيناترا فرنسا فيه تقليل من كوزموبوليتانيا هذا الفنان المهم، خصوصاً أن أزنافور غنى بأكثر من ثماني لغات حيث تعتبر أغنية (كم هي حزينة فينيسيا) أهم أغنية غناها بخمس لغات، فقد غناها بالفرنسية (Que Cest Triste Venise) والإنكليزية (How sad Venice can be) والإسبانية (Venecia Sin Ti) والألمانية (Venedig in Grau) والإيطالية (Comè Triste Venezia) كما غنى العديد من الأغاني بالروسية والأرمنية والبرتغالية.
كتب أزنافور أكثر من 600 أغنية وباع أكثر من 100 مليون نسخة من تسجيلاته حول أوروبا والعالم، كما ظهر كممثل في ما يقارب 60 فيلماً. السر في شعبية أغاني أزنافور أن جُمَلَها سردية قصيرة، رشيقة، مليئة بالحنين مُلَحَّنة بموسيقى أوروبية غجرية مركَّبة يختلط فيها حلو الحياة بمُرِّها تقدم نفسها للجمهور بطريقة السكيتش. توصف أغانيه التي أدَّاها بالإيطالية بالأغاني الثمِلة، ولعل أهمها La Mamma (الأم) و Ave Maria ( سلام ملائكي) التي بيع منها مليون نسخة في إيطاليا لوحدها. عام 1998 لُقِّب أزنافور بـ(مغني القرن العشرين) من خلال الاستفتاء الذي أجرته قناة CNN ومجلة «تايم» الأمريكية متغلباً على كل من فرانك سيناترا، ألفيس بريسلي، بوب ديلان، وما زال الجدل دائراً في فرنسا بين اعتباره استمراراً للإرث الغنائي الرومانسي الفرنسي من جهة، واعتباره آخر المغنين الرومانسيين الفرنسيين الذين سيختتمون هذه المرحلة، التي ستبقى إرث فرنسا ومفخرتها الفنية عبر العقود المقبلة من جهة أخرى. عندما بلغ التسعين قام شارل أزنافور وعلى مدار الأعوام التي تلتها بتقديم التبرعات التي قُدِّرَتْ بمئات ملايين الدولارات للكثير من المنظمات الإنسانية والعالمية، وأهمها التبرعات التي قدمها لجمهورية أرمينية بعد الزلزال الذي ضربها سنة 1988 كما تبرع بالكثير من المال لمنظمة اليونسكو. في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2008 وقّع الرئيس الأرمني سيرز سير كيسيان مرسوماً رئاسياً بمنح شارل أزنافور المواطنة، باعتباره بطلاً من أبطال أرمينية، وعندما عيَّنَتْهُ الحكومة الأرمينية سفيراً لأرمينيا لدى سويسرا في الثاني عشر من شباط/فبراير 2009 صرَّح :»في البداية كنتُ متردداً لأنها ليست مهمةً سهلةً، لكنني أؤمن بأن ما هو مهم لأرمينيا هو مهم لنا جميعاً. لقد قبلتُ هذا الطلب من الحكومة الأرمنية بكل الحب والسعادة والشعور بالفخر والاعتزاز».
أغنية أطفال الحرب
بالعودة مرة أخرى إلى ستينيات القرن العشرين سنتذكر أكثر من أي وقت مضى أغنيته «أطفال الحرب» التي تعتبر أيقونة فنية، إنسانية وأخلاقية اختصر من خلالها الانعكاسات الرهيبة للحرب على الأطفال، والتي حازت إعجاب الفرنسيين والعالم بأسره، بعد أن كتب كلماتها وغنَّاها سنة 1968 وهي تنطبق على أجيال وأجيال، خصوصاً في هذه الأيام التي فقد العالم فيها الكثير من القِيَم:
« ليسوا أطفالاً/ إنهم مَنْ عاش العصر الحجري للحديد والدم/ فتحوا عيونهم على دموع الأمهات/ في أيام واضحة المعالم وعلى عالم يحترق/ أطفالُ الحرب ليسوا أطفالاً / فقد تعرَّفوا على الأرض، على النار والدم/ كانوا يتوَهَّمون أنهم سيأكلون/ لكنهم حملوا معهم المقابر لرياض الأطفال/ هؤلاء الأطفال من العاصفة ومن الأيام غير المؤكَّدة/ لبعضهم وجهٌ أجوف بسبب الجوع/ لبعضهم شيخوخة قبل الشيخوخة/ نشأوا بلا حول ولا قوة / دون أن يتعلموا إرث الحب، مع أن الحب ينبغي أن يوَرَّث/ أطفال الحرب ليسوا أطفالاً/ لقد رأوا الغضب/ دَثَّروا أغانيهم/ تعلَّموا أن يكونوا صامتين/ وأن تكذب الأصوات وتُملي مصيرهم عليهم/ لقد وُلِدوا أطفالَ حرب!».
شارل أزنافور المولود في فرنسا يحمل في جيناته نوستالجيا أرمنية تنقل جمالها إلى كل العالم، غَنَّى فهامت سيدات باريس ورجالها بصدى صوته، وغلَّفت موسيقى أغنياته ساحة كونكورد وعَبَرَت كلماته جبال البيرنيه، واستقل الإيطاليون عربات صوته للسفر إلى ساحة سان ماركو في فينسيا، بينما احتفى به الأرمنيون في شارع أبوفيان وسط العاصمة يريفان. شاه نور الأرمني الجميل عبَرَ جدار برلين وتجاوزَ بحر الشمال، ثم حدود الأطلسي والكاريبي ولمعت موسيقى كلمات أغانيه مع موجات المسيسبي، واستنشقت رائحةَ الليل في جبال الآنديز، يبقى حتى اليوم وشماً جميلاً مكتوباً في قلوب عاشقي السلام والحرية، ُينشد بكلماته الأبدية: أنا الحب فاعتنقوا أغانيَّ وأطلقوا العنان للحظاتكم القصيرة، لا لن تتأخروا… سأعيدكم أبرياء.
كاتب سوري
“القدس العربي”