أولاً: خلفية المساعي الأميركية لإبرام اتفاق مع السعودية
على الرغم من مخاوف السعودية من إيران، وتجاوبها مع المساعي الأميركية الرامية إلى فتح أجوائها أمام الطائرات التجارية الإسرائيلية، فإنها امتنعت عن الانضمام إلى ما يعرف ب “الاتفاقات الإبراهيمية” التي توسطت بها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، ووقّعتها كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب مع إسرائيل عام 2020، وانضم إليها السودان مطلع عام 2021. وبعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، للرياض مطلع أيار/ مايو 2023، تجددت الجهود الأميركية في اتجاه تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، حيث أعرب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بحسب مصادر أميركية، عن استعداد بلاده للتطبيع مع إسرائيل في مقابل صفقة أمنية واسعة مع واشنطن. وقد دفع ذلك وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى زيارة السعودية في حزيران/ يونيو لمناقشة المطالب السعودية. لكن الرئيس جو بايدن، في تصريح لشبكة سي إن إن مطلع تموز/ يوليو، قلل من احتمال التوصل إلى اتفاق بسبب “ارتفاع سقف المطالب السعودية” من الولايات المتحدة، خصوصًا لجهة العلاقات الأمنية المشتركة والالتزامات التي تطلبها الرياض من واشنطن، إضافة إلى التوتر بين إدارته وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التي وصفها بايدن ب”الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل”. لكن هذا لم يمنع رئيس الموساد الإسرائيلي، دافيد بارنيع، من زيارة واشنطن سراً، في منتصف تموز/ يوليو، لاستجلاء المرحلة التي وصلت إليها جهود إدارة بايدن في التوصل إلى اتفاق مع السعودية، من شأنه أن يشمل تطبيعًا معها. وعلى الرغم من أن غالبية المطالب السعودية موجهة إلى الولايات المتحدة، فإن السعودية تشترط الحصول على بعض “التنازلات” الإسرائيلية في الموضوع الفلسطيني لتبرير الاتفاق. وقد عاد سوليفان مرة ثانية إلى السعودية أواخر تموز/ يوليو، حيث التقى بولي العهد السعودي في مدينة جدة ل”مناقشة المسائل الثنائية والإقليمية، بما في ذلك مبادرات لتعزيز رؤية مشتركة لشرق أوسط أكثر سلماً وأمناً وازدهاراً واستقراراً، ومترابط مع العالم”، بحسب لغة البيان الأميركي المكررة التي تستخدم لمثل هذا الحالات. وفي اليوم التالي، 28 تموز/ يوليو، أشار بايدن في تجمع انتخابي إلى أنه من المحتمل أن “نشهد تقارباً” بين الرياض وتل أبيب في الفترة المقبلة. وكان المتحدث باسم السفارة السعودية في واشنطن، فهد ناظر، قد صرّح في وقت سابق بأن “لدى إسرائيل الكثير من الإمكانات، والتطبيع يمكن أن يحقق الكثير، في التجارة والتبادل الثقافي. لكن إلى حين حدوث ذلك، ولكي تتخذ المملكة هذه الخطوة، نحتاج إلى حل النزاع الأساسي مع الفلسطينيين”.
ثانياً: حسابات أطراف التفاوض
على الرغم من أن المفاوضات تجري على مستوى ثنائي بين الولايات المتحدة والسعودية، فإن غايتها هي التوصل إلى اتفاق ثلاثي يشمل إسرائيل، حيث لكل طرف دوافعه وحساباته الخاصة، كما أن له هواجسه وتحفظاته، وهو ما يجعل إمكانية التوصل إلى اتفاق محل شكّ كبير.
1. حسابات السعودية
يتمثل هدف السعودية الأساسي من الاتفاق المفترض في الحصول على ضمانات أمنية أميركية بالدفاع عنها في حال تعرّضها لهجوم. وبحسب المعطيات المتوافرة، للسعودية ثلاثة مطالب أساسية، هي: أولًا، إبرام معاهدة دفاع متبادلة على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تستلهم مادته الخامسة، وتلتزم بموجبها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية أمام أيّ تهديد عسكري تواجهه. وتنص المادة الخامسة للناتو على أن “هجوماً مسلحاً ضد عضو أو أكثر من أعضاء الحلف يعتبر هجوماً على جميع الأعضاء […] وبناء عليه، فإنه في حالة حدوث مثل هذا الهجوم المسلح، فإن لكل واحد من الأعضاء حق ممارسة الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وتقديم المساندة والعون للطرف أو الأطراف التي تتعرض للهجوم”. ثانياً، الحصول على مساعدة أميركية في بناء مفاعل نووي مدني والسماح بتخصيب اليورانيوم على الأراضي السعودية تحت إشراف أميركي. ثالثاً، الحصول على أسلحة أميركية متطورة، مثل نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية على ارتفاعات عالية THAAD من شأنها أن تساعد السعودية على التصدي لترسانة الصواريخ الإيرانية المتوسطة والطويلة المدى. أما على صعيد المطالب التي تريدها السعودية من إسرائيل، فقد أعطت إدارة بايدن الإسرائيليين انطباعاً بأن صفقة محتملة مع الرياض تتطلب” تنازلات” على مستوى قضية فلسطين تتجاوز حدود وعد يقدّمه نتنياهو بعدم ضمّ الضفة الغربية (وهو أصلًا لا يريد ضمها، بل ضم المستوطنات وأجزاء غير مأهولة منها)، لأن السعودية لا تريد تكرار تجربة الإمارات التي كان أحد تبريراتها لتوقيع اتفاقية “سلام” مع إسرائيل هو لجم محاولات ضم الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان اليهودي فيها، وهو ما لم تلتزم به تل أبيب، ولم تعِد به. إلا أن السعودية تريد الحصول على ثمنٍ ما يعكس ثقلها وأهميتها، ويتجاوز كثيراً ما حصلت عليه الإمارات، علماً أن هذه الأخيرة لم تحصل على شيء على مستوى قضية فلسطين، ولم يكن هذا هدفها من الاتفاق، ولم تصرّح أن هذا هدفها أصلًا. وباختصار، ليس موضوع فلسطين أساسياً في الحالتين. والمبدأ هو جواز التطبيع مع إسرائيل من دون حل عادل، ولو نسبياً، لقضية فلسطين.
من غير الواضح مدى استعداد الولايات المتحدة وإسرائيل لتلبية الشروط السعودية التي تعتبرها واشنطن صعبة؛ ذلك أن إبرام معاهدة دفاع مشترك مع الرياض يعني أن الولايات المتحدة ستعود إلى الانخراط في مشاكل المنطقة وصراعاتها، بما في ذلك احتمال الدخول في صدام عسكري مع إيران، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن أن تتخفف من أعباء المنطقة للتركيز على تحديات أكثر أهمية بالنسبة إليها (الصين وروسيا). فضلًا عن أن هذه المعاهدة الدفاعية تحتاج إلى تصديق مجلس الشيوخ، وهو أمر غير مضمون في ضوء استياء الكونغرس من السياسات السعودية، بما في ذلك التقارب مع الصين وروسيا، إلى جانب مسألة الاتهامات المتعلقة بحقوق الإنسان. أما فيما يتعلق بدعم برنامج نووي سلمي سعودي، فإن واشنطن وتل أبيب تخشيان أن يطلق ذلك سباق تسلحٍ نوويٍ في المنطقة، خصوصاً أن الرياض تريد تخصيب اليورانيوم بقدرات ذاتية وفي منشآت محلية، وهو ما يعني تمكّنها نظرياً، على غرار إيران، من تخصيب اليورانيوم بدرجات قد تسمح في المستقبل بصنع أسلحة نووية. لكن إسرائيل أعطت مؤشرات أخيراً بأنها مستعدة للموافقة على هذا المطلب السعودي بشروط. وبشأن السماح بتزويد السعودية بأسلحة أكثر تطوراً، فهو أمر قد يُرضي شركات السلاح الأميركية، ولكنه قد لا يجد القبول نفسه في الكونغرس الذي يعارض الحرب السعودية في اليمن، ولا يُخفي امتعاضه من سجلها الحقوقي. أما إسرائيلياً، فمن الصعب تصور تقديم أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً “تنازلات” جدية للفلسطينيين. وحتى لو أظهر نتنياهو مرونة في هذا الشأن، وهو أمر غير محتمل، فإن ذلك سيقود، على الأرجح، إلى انهيار الائتلاف الحكومي الحاكم، في حين يبدو أن المعارضة الإسرائيلية لا تنوي الموافقة على إنقاذ نتنياهو عبر حكومة وحدة وطنية بعد مضيه في مشروع إضعاف سلطة القضاء، ولسوابقه في عدم الوفاء بوعوده.
2. الحسابات الأميركية
تريد الولايات المتحدة إعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، عبر دمج قدرات حلفائها فيها، بمن فيهم العرب وإسرائيل، وتعزيز قدراتهم الذاتية للتصدي للتهديدات، القادمة من إيران خصوصاً، حتى لا تضطر واشنطن إلى القيام بذلك بنفسها، وحتى تتمكن من التركيز على منطقة المحيط الهادئ. وتنظر الولايات المتحدة بعين الريبة إلى تصاعد النفوذ الصيني في منطقة الخليج، والشرق الأوسط عموماً، ويقلقها التطور المطّرد في العلاقات السعودية – الصينية خصوصاً، وتواتر أنباء عن مفاوضات تجريها الرياض وبيجين للاتفاق على شراء الصين النفط السعودي بالعملة الصينية “الرنمينبي”، ما يمثل تهديداً فعلياً لمكانة الدولار الأميركي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية الرئيسة. وتريد واشنطن من السعودية، أيضاً، تقليص تعاملاتها مع عمالقة التكنولوجيا الصينيين، مثل هواوي، التي جرى حظرها في الولايات المتحدة وكندا وعدة دول أوروبية. وبحسب المقاربة الأميركية، فإن تقليص العلاقات السعودية – الصينية سيكون بمنزلة تغيير كبير في قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، تريد إدارة بايدن إنهاء التنسيق السعودي مع روسيا بخصوص أسعار الطاقة بهدف زيادة الضغط على موسكو في حربها على أوكرانيا، وتخفيض أسعار الوقود قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة عام 2024. أما بخصوص العلاقة مع إسرائيل، فترى إدارة بايدن أن مكانة السعودية الدينية والسياسية والمالية ستفتح، في حال التوصل إلى اتفاق، الباب واسعًا أمام تطبيع إسرائيلي يشمل العالم الإسلامي بأسره، وهذا سيكون بمنزلة إرث مهم لسياسة بايدن الخارجية.
لكن ثمة شكوكاً في إمكانية إقناع السعودية بالابتعاد عن الصين وروسيا، نظراً إلى حجم المصالح الكبيرة التي باتت تربطها بالدولتين، إضافة إلى محاولة السعودية، مثل باقي دول الخليج العربية الأخرى، تجنب الانحياز إلى أحد الأطراف في منافسة القوى العظمى، من دون أن يعني ذلك تخليها عن علاقتها المميزة بالولايات المتحدة. ويرى بعض المراقبين أن السعودية ربما لا تكون متحمسة لمساعدة بايدن في الحصول على ولاية رئاسية جديدة بسبب مواقفه السلبية من السعودية خلال حملته الانتخابية الرئاسية، عام 2020، وتخليه عن دعمها في حرب اليمن بعد توليه الرئاسة، وأنها قد تكون متحمسة أكثر لعودة ترامب إلى الرئاسة. إضافة إلى ذلك، سوف يسعى الجمهوريون والديمقراطيون على السواء، كلٌ لأسبابه، لتعطيل التصديق على معاهدة دفاعية محتملة مع السعودية أو بيعها أسلحة متطورة؛ فالجمهوريون لا يريدون أن يسجّلوا ذلك باعتباره نصراً لبايدن قبل الانتخابات الرئاسية، أما الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي فرفضه مرتبط بسجل حقوق الإنسان في السعودية، ولأنه يرى في أيّ اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل إضعافًا لفرص قيام دولة فلسطينية، واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، في حين يرى فريق آخر في نجاح إدارة بايدن في إنجاز صفقة سعودية – إسرائيلية بمرتبة مكافأة لحكومة نتنياهو التي تسعى لتقويض سلطة القضاء في بلادها، ومن ثم إضعاف ما يوصف بالحركة الديمقراطية في إسرائيل.
3. الحسابات الإسرائيلية
يرتبط اتفاق محتمل لتطبيع العلاقات مع السعودية لدى نتنياهو بإرثه السياسي؛ ذلك أنه يطمح إلى أن يكون الزعيم الإسرائيلي الذي أنهى 75 عامًا من العداء لإسرائيل، وضمِن قبولًا نهائيًا من العالمين العربي والإسلامي بوجودها واغتصابها أرض فلسطين. ويؤمن نتنياهو أن تطبيعًا مع السعودية هو بمنزلة “الجائزة الكبرى” لدولة إسرائيل، وأن تحقيق سلام مع العالم العربي سوف يحوّل قضية فلسطين إلى مسألة هامشية إقليميًا ودوليًا، ومحلية تخص إسرائيل وحدها التي تحدد علاقاتها مع فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1967. وبناءً على ذلك، يبدو نتنياهو مستعدًا للنظر في شروط السعودية للتطبيع، بما فيها إمكانية الحصول على مفاعل نووي مدني. وبحسب مستشاره للأمن القومي، تساحي هنغبي، فإن عشرات الدول لديها مشاريع مفاعلات نووية مدنية، مثل مصر والإمارات. إلا أن المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية تعارض هذا التقييم، وهو ما حدا بنتنياهو إلى أن يستبعدها، وكذلك بعض الوزراء في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، من إدارة ملف المفاوضات حول اتفاق مع السعودية والاقتصار على طاقم سري يضم أخلص مستشاريه. ومن هذا المنطلق، يتعرّض نتنياهو لحملة اتهامات داخلية بأنه مستعد لتعريض “بقاء إسرائيل للخطر” من أجل إرثه وحساباته الشخصية؛ ذلك أن برنامجًا نوويًا سعوديًا يرجّح أن يوفر الذريعة لإيران لتجاوز عتبة إنتاج أسلحة نووية. وإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من اهتمام نتنياهو الظاهر باتفاق مع السعودية، فإن اشتراطها تقديم “تنازلات” لا تبلغ مستوى حل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا، ولو نسبيا، مثل التعهد بعدم ضم الضفة الغربية (على اعتبار أنّ هذا الأمر يُعدّ تنازلًا!)، ووقف بناء المستوطنات، وتسهيل حركة السكان الفلسطينيين في الضفة والعمل على تحسين أوضاعهم الاقتصادية، قد يؤدي إلى تفكيك ائتلافه الحكومي اليميني المتطرف وانهياره، وهو ما لا يريده نتنياهو، الذي يفضّل في هذه الحالة، كما يبدو، تطبيعًا جزئيًّا، وإدارة علاقات شبه طبيعية مع السعودية، من دون تبادل سفارات وتطبيع رسمي.
خاتمة