هناك مقولة رائجة لدى الكثير من مناوئي الاستبداد والديكتاتورية، مفادها أنّ كتاب “الأمير” لميكافيلي هو الأثير لدى الطغاة والمستبدين، حتى أنّهم من كثرة تعلّقهم بتلك النصائح يستظهرونها يومياً قبل النوم، ثم يضعون الكتاب تحت وسائدهم قبل أن يغفوا. وقديماً، قيل إنّ موسوليني قد اختار الكتاب موضوعاً لرسالة الدكتوراه أيام دراسته، أمّا هتلر، فكان يضع الكتاب على مقربة من سريره. وحديثاً، انتشر الكثير من الأحاديث التهكمية عن إعجاب حافظ الأسد وصدام حسين بالكتاب وتطبيقهما نصائح ميكافيلي لأميره كما لو أنّهما المعنيان بها.
لا شك أنّ الكتاب الذي مرّت على صدوره قرون ستة لا يزال يشغل الكثير من الجدل، والثابت في ذلك الجدل أنّ هناك شبه إجماع على السمعة السيئة له ولمؤلفه، حتى بات اسم ميكافيلي مرادفاً للخسّة والوضاعة.
يقول شكسبير في مسرحيته “زوجات وندسور المرحات” وعلى لسان أحد شخصياته: هل أنا مخادع… هل أنا ميكافيلي؟ إنّما، وفي غمره انشغال الناس بصاحب مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” التي أراد منها ميكافيلي الوصول إلى الهدف بكلّ الطرق، حتى وإن كانت غير شريفة، وإلصاق الميكافيلية بالطغاة والمستبدين قديماً وحديثاً؛ نسي البعض أنّ نصائح ميكافيلي لم يستفد منها الطغاة فقط، بل استفاد منها الاحتلال الاستيطاني بشكل كبير أيضاً، وها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يجد نفسه معنياً بتطبيقها والاستفادة القصوى منها.
المستوطنات وفقاً لميكافيلي “نوع من الحماية للدولة”، من خلال عزل السكان الأصليين في مناطق محدودة المساحة مقطّعة الأوصال
يقول ميكافيلي في واحدة من نصائحه للأمير: “عندما يحتل الأمير مستعمرة جديدة تختلف عن دولته في العادات واللغة والتشريعات، فسيجد صعوبات كثيرة للاحتفاظ بها، وتحتاج إلى حظ وكفاءة، فيجب أن يقيم الأمير شخصيًا في المستعمرة، ثم يجب عليه أن يقيم مستوطنة أو اثنتين في مناطق حيوية، ثم يوطِّن جاليات في مناطق مناسبة، بحيث لا يتضرر من هذا الإجراء إلا من صودرت أرضهم أو بيوتهم”. فالمستوطنات وفقاً لميكافيلي “نوع من الحماية للدولة”، من خلال عزل السكان الأصليين في مناطق محدودة المساحة مقطّعة الأوصال، كما تساعد المحتل على تفتيت المجتمع الواقع تحت الاحتلال وتمنع الناس من تحقيق أيّة تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية.
وينصح ميكافيلي نتنياهو “بأنّ المتضرّرين من إقامة هذه المستوطنات سيظلون غير قادرين على الإضرار بالحاكم ما داموا متفرقين وضعفاء”، وينصح بأنّ الرجال منهم يجب التعامل معهم بإحدى طريقتين “استمالتهم أو إبادتهم”. ثم يحذر في موضع آخر من كتابه “من يصبح حاكماً لمدينة حرّة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي هي عليه”. لذلك ينصح الأمير بالتخريب، وهي الطريقة الوحيدة التي يؤكدها ميكافيلي.
لم يتأخر نتنياهو في تطبيق نصائح ميكافيلي حالياً في غزّة، والتخريب هو السياسة الوحيدة التي اتبعتها الصهيونية مند احتلالها فلسطين منذ 75 عاماً. وإن كان ميكافيلي قد نصح أميره بإقامة مستوطنة أو اثنتين، فالاحتلال الإسرائيلي، ومنذ عام 1967 يقيم المستوطنات ليصل عددها إلى رقم لم يأتِ به عقل ميكافيلي الشرير، وهو 279 مستوطنة في جميع أنحاء الضفة الغربية، 14 منها في القدس الشرقية، حيث ارتفع عدد المستوطنين من 247.000، وقت اتفاقات أوسلو إلى أكثر من 700.000 في عام 2023 كما جاء في نص الدعوى التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. ورغم إعلان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مراراً وتكراراً، أنّ إنشاء إسرائيل هذه المستوطنات “ليس له أي شرعية قانونية ويشكل انتهاكاً صارخاً بموجب القانون الدولي وعقبة رئيسة أمام تحقيق حل الدولتين والسلام العادل والدائم والشامل”. إلا أنّ إسرائيل لم تتوقف لحظة واحدة عن سرقة أراضي الفلسطينيين وتقديمها هدايا ليهود تستجلبهم من كافة دول العالم.
إن كان ميكافيلي قد نصح أميره بإقامة مستوطنة أو اثنتين، فالاحتلال الإسرائيلي ومنذ عام 1967 وهو يقيم المستوطنات ليصل عددها إلى رقم لم يأتِ به عقل ميكيافيللي الشرير
أمّا فيما يتعلّق بالتخريب الذي ينصح به ميكافيلي من أجل كسر إرادة مدينة حرّة مثل غزّة، وقبلها مدن فلسطينية كثيرة عاث بها الاحتلال الإسرائيلي، قتلاً وتدميراً وانتهاكاً، مرّة ثانية يطبّق نتنياهو نصائح ميكافيلي بإجرامية منقطعة النظير، حيث لم يكتف رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتخريب المادي من هدم بيوت الفلسطينيين ومدارسهم ومستشفياتهم وكلّ مرافقهم العامة، لا بل ذهب إلى أبعد من نصيحة ميكافيلي، حيث تؤكد الكثير من التقارير الصادرة عن منظمات دولية ومنظمات حقوق الإنسان، وتحديداً بعد أحد عشر أسبوعاً من القصف على غزّة، أنّ مستوياته الشديدة (القصف) وعدم وجود مناطق آمنة يلجأ إليها الفلسطينيون أدّت إلى حدوث صدمة نفسية شديدة لدى الغزيين. فـ 80% من الأطفال الفلسطينيين يعانون من مستويات أعلى من الاضطراب العاطفي، وما يدل عليه التبوّل اللاإرادي (79%) والصمت التفاعلي (59%)، والانخراط في إيذاء النفس (59%)، والأفكار الانتحارية (55%). والمعروف بالفعل، كما تؤكد تلك التقارير، أنّ “التعرض المتكرر للصراع والعنف، بما في ذلك مشاهدة وتجربة هدم المساكن، إلى جانب الحصار الإسرائيلي لغزة منذ عام 2007” قد “ارتبط بمستويات عالية من الضيق النفسي بين الفلسطينيين”.
إذن، التخريب النفسي وهو سياسة منهجية وتهدف لقتل روح وإرادة الانسان الفلسطيني؛ وتلك إضافة جديدة للاحتلال الإسرائيلي لم تتفتق عنها عقلية ميكافيلي. لقد ذهب نتنياهو وفريقه الإجرامي في تطبيق “التخريب” الذي نصح به ميكافيلي إلى أمداء أبعد بكثير مما أراده السياسي الإيطالي الذي عاش في القرون الوسطى، ولم يتوّقع ميكافيلي أن يأتي أحد في القرن الواحد والعشرين ليبذه في شروره ويتفوق عليه!
إنما “من يصبح حاكماً لمدينة حرة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي هي عليه”؛ وبعد أكثر من 100 يوم من العدوان الإسرائيلي على غزّة، يُجمع الكثير من المحللين، وكذلك الوقائع على الأرض أنّ نهاية نتنياهو السياسية قد اقتربت كثيراً وستقضي غزّة عليه. كذلك هناك حقيقة راسخة لا جدال فيها، وهي أنّ الشعب الفلسطيني، وبعد احتلال مستمر لفلسطين منذ 75 عاماً لا يزال يقاوم، ولن يستطيع أحد أن يقتلعه من أرضه.