كثيرة هي الحكايات الفلسطينية في سفر المعاناة والصمود وإرادة الحياة ، فما زالت أرض الأنبياء تحكي والعالم يسمع .
" بَلعين " قرية فلسطينية تقف في طريق جدار الفصل العنصري ، الذي تبنيه إسرائيل على أراضي الضفة الغربية . ومثل كل القرى المماثلة ، يلتهم الجدار قسماً هاماً من أراضيها وزيتونها وتعب أهلها . غير أن القرية تقف استثناء بارزاً في وجهه . فلم يتعب أهلوها من المواجهات الأسبوعية بل اليومية من أجل الاحتجاج عليه ومقاومة استمرار بنائه . وكأن شبابها وشاباتها وجميع المتعاطفين معهم من داخل البلاد وخارجها أتقنوا التعامل مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بأشكال المقاومة السلمية المتنوعة ، وألفوا هراواته ورصاصه المطاطي وقنابله المسيلة للدموع ، وقرروا التعايش مع قضيتهم وإبقاءها حية كخبز يومي رغم صمت المجتمع الدولي ، بل بسببه ورغم أنفه .
ومن المرجح أن لا يستكين البلعينيون بعد الدرس البليغ الذي قدمته " بُدرُس " .
" بُدرُس " قرية فلسطينية أخرى على مسار الجدار . استمرت بالتصدي لمروره بأراضيها ومقاومة هذا العدوان وبأشكال مختلفة مدة ثمان سنوات . . وانتصرت . استطاعت تغيير مسار الجدار ، وأبعدته عن أراضيها ، فاستعادت 1200 دونماً من الأراضي ، وأنقذت 3000 شجرة زيتون من الإعدام ، رغم أنف المخططين والمنفذين وآلة القمع الإسرائيلية المتوحشة .
ليست " بُدرُس " أسطورة بين القرى بل أمثولة لها . فهي قرية صغيرة تقع إلى الغرب من مدينة رام الله ، لا يزيد عدد سكانها عن 1600 نسمة . وهي مثل القرى والمدن الفلسطينية الأخرى تغرق بفقرها ومعاناتها واستفرادها أمام القوة الغاشمة .ومثلها أيضاً تتمتع بالجسارة الكافية والتصميم اللائق من أجل الحياة . غير أن ما ميزها هذا العناد المقدس الذي لا يتراجع ولا يلين من أجل انتزاع الحق . وهذا الأمل بالنجاح الذي كان أهلها يرونه من خرم إبرة ، بعد أن أطبق عليهم تردي الوضع الفلسطيني وانكشاف العجز العربي وحالة الصمت الدولي عما يجري لحياتهم بل التواطؤ معه .
وعندما برز من بينهم رجل اسمه عايد مرار ، يبعث فيهم التصميم على مقاومة بناء الجدار ، والأمل باستعادة التراب والزيتون من بين فكيه ، لم يكن كثيرون منهم يرون مثله نفس الرؤية بوضوح الهدف ، ويؤمنون بذات الدرجة بإمكانية تحقيقه . لكنهم التفوا حوله ، وقرروا المضي في الطريق إلى النهاية . وكلما سد الاحتلال باباً فتحوا من اتجاه آخر كوة . وعندما اعترض عليهم الطرقات والمعابر شقوا مسالك جديدة صعبة ووعرة . . حتى وصلوا .
ليس عايد مرار سوبر مان ، ولا أهالي " بُدرُس " نخبة سماوية من كوكب آخر . لكنهم نجحوا وحققوا ما يريدون . وليس من المهم أن يصبح عايد الزناتي خليفة في هذا العصر ، ولا أن يصبح أهالي قريته بني هلال في السيرة الشعبية ، لأن الأهمية هنا للحكاية الفلسطينية ، حكاية المقاومة والانتصار .
لا تستطيع " بُدرُس " أن توقف بناء الجدار ، وليس لها أن تتصدى لمهمة كهذه . لكنها قالت كلمتها فيما تستطيعه ، وما يستطيعه غيرها إذا توحدت الكلمة . وهو قطعاً ليس بالشيء اليسير .
26 / 12 / 2009
هيئة التحرير