لم تتح للعالم كله أي فرصة لإمكان الغفلة عن وفاة زوج الملكة إليزابيث الأمير فيليب. أما بريطانيا فقد مرت عليها أيام لم يكن فيها من حديث إلا عن فيليب، حيث أوقفت البي بي سي جميع برامجها واسترسلت ليومين كاملين في بث أخبار وحوارات ووثائقيات تتركز كلها على الرجل وسيرته. كما حرصت على توحيد البث بين جميع قنواتها التلفزية والإذاعية، بحيث لم يكن للمشاهد أو المستمع مفر من سيرة فيليب مهما حاول وأنّى اتجه. والدليل على أن هذا التناول الإعلامي قد بلغ من الشطط حدا يستفز العقل أن آلافا من المواطنين وجهوا شكاوى إلى البي بي سي يترجّونها أن ترحمهم من هذا القصف المستمر. حيث قال أحدهم إن البي بي سي خصصت لهذا الرجل الذي عاش عالة على غيره من وقت البث أكثر مما خصصت للـ127 ألفا الذين قضوا ضحية للوباء! وأضاف: لو أن مئات ملايين الجنيهات التي أهدرت على هذه العائلة المالكة العاطلة المعطّبة أنفقت على نظام الصحة العمومي لأمكن إنقاذ الآلاف من هؤلاء الضحايا.
وإذا بلغت الحال بالبريطانيين حد الشكوى من أمر يتعلق بالملكيّة تحديدا، فإن لهذا دلالة. ذلك أنهم أكثر الأمم هياما بالملكيّة تاريخا ونظاما وأنهم مهووسون بملكتهم وذويها لا يشبعون من أخبارهم ولا يملّون وجوههم. هذا علما أن زوجها، الذي لم يكن له أي دور دستوري، قد كان عنصريا استعلائيا فظا لم تسلم من لسانه الشعوب الأجنبية ولا الأقليات العرقية داخل المجتمع البريطاني. وله في هذا قصص عجيبة. من ذلك أنه قال لطالب بريطاني قابله أثناء زيارة للصين عام 1986: لا تطل المقام هنا وإلا فإنك ستعود للبلاد بعينين ضيقتين. وعندما استقبله رئيس نيجيريا مرتديا الزي الوطني، قال له: يبدو أنك على وشك الذهاب إلى النوم. وقابل عام 1998 سائحا بريطانيا جاب بلاد بابوا نيوغينيا سيرا على الأقدام فقال له: ها أنك أفلحت في النجاة من أكلة اللحوم البشرية. ورأى جمعا من الأطفال البريطانيين الصمّ في حفل كانت تعزف فيه الموسيقى النحاسية، فقال لهم: أنتم صمّ؟
حكم السلالات إنما هو نموذج سياسي مناف للعقل معاكس للتاريخ. والدليل أن الإنسانية قررت تجاوزه منذ قديم الزمان. ليس في جمهورية روما فحسب وإنما، قبلها، في قرطاج التي كان من أسباب ثناء أرسطو على دستورها أن مناصب الحكم والإدارة فيها لم تكن بالوراثة
إذا كنتم واقفين هنا فلا عجب أن تصابوا بالصمم. وعندما زار مصنعا للإلكترونيات في اسكتلندا رأى صماما كهربائيا معطبا، فقال: يبدو أن الذي ركّب هذا عامل هندي. كما قال لممرضة فلبينية عام 2016: لا بد أن الفلبين صارت نصف مهجورة، لأن أكثركم يعمل الآن هنا في مستشفيات بريطانيا. وأثناء زيارة للباراغواي عام 1963 قال للطاغية ألفريدو ستروسنر (ببلادة لم ينافسه فيها إلا ترامب ممتدحا دكتاتوره المفضل): «إني لسعيد بأني في بلاد لا يحكمها شعبها»!
ولكن رغم أن فيليب ظل متماديا في التفوه بمثل هذه السفاهات طيلة سبعة عقود من التدخل الطفيلي (مرافقا دائما لزوجته) في الحياة العامة، فقد بقي معظم البريطانيين يتمحّلون له الأعذار بزعم حبه للنكتة والفكاهة! بل إن الأسقف الأسود جون سنتامو قد مضى في التغني بمناقب فيليب إلى حد الادعاء بأنه كان يطلق تصريحاته الصادمة هذه حبا في السجال وطلبا للمناظرة! ثم أضاف: ولكن لم يحدث أن ساجله أو ردّ عليه أحد لأن الناس يوقّرون المؤسسة الملكية ويجلّون أفرادها. ولا صحة لكلام الأسقف طبعا إلا في جزئه الثاني. ذلك أن البريطانيين يثيرون الدهشة حقا لفرط امتثاليّتهم وخفضهم لجناح الخنوع كلما تعلق الأمر بالملكية ورموزها.
هذا ما يوجب السؤال: هل بقي للحكم الوراثي، سواء كان دستوريا أم لا، فعليا أم شكليا، ملكيا أم جملكيا (من جنس ما ورثه سفاح دمشق) أي معنى في هذا العصر؟ بل هل يمكن للحكم الوراثي أن يصمد لامتحان العقل في أيّ من العصور؟ أي ما معنى أن تظل سلالة واحدة تتوارث حكما أو عرشا بمجرد صدفة الميلاد؟ وهل تكفي البيولوجيا مصدرا للإيديولوجيا؟ وكيف يمكن لبشرية اليوم أن تجد مقبوليّة أو شرعية في ترتيبات توريثية هي مجرد تكريس لحوادث التاريخ الشبيهة بحوادث السير؟ سؤال لا ينفك يحيرني منذ زمن بعيد. وقد أعجبني أن أرى الإيكونومست الأسبوع الماضي تطرح السؤال ذاته، بما عهد فيها من تبصّر بالحقائق، لتجيب بأن «الحداثة قامت أصلا، منذ الثورتين الفرنسية والأمريكية، على نقض أساس الحكم الوراثي، وبأن في العالم اليوم 26 سلالة حاكمة تكاد جميعها تقف من شعوبها ومن العصر موقف الحرج والاعتذار لأنها تعلم أنها من مخلفات الماضي الغابر، إلا سلالة ويندزور فإنها لا تزال متشبثة بمظاهر الأبّهة والبهرج، والأمة البريطانية تهتف هل من مزيد!» إن من البديهيات عندي أن حكم السلالات إنما هو نموذج سياسي مناف للعقل معاكس للتاريخ. والدليل أن الإنسانية قررت تجاوزه منذ قديم الزمان. ليس في جمهورية روما فحسب وإنما، قبلها، في قرطاج التي كان من أسباب ثناء أرسطو على دستورها أن مناصب الحكم والإدارة فيها لم تكن بالوراثة.
كاتب تونسي
“القدس العربي”